الخميس، 11 أكتوبر 2018

حريّة الصحافة

حريّة الصحافة
جورج أورويل
مقدمة أورويل المقترحة لـ"مزرعة الحيوان"
ترجمة : زوينة آل تويّه



يعود التفكير في هذا الكتاب، حتى الحدّ الذي تذهب إليه الفكرة الرئيسة، إلى عام 1937، لكنه لم يُكتب إلا في أواخر عام 1943 تقريبًا. وبحلول الوقت الذي كُتب فيه كان واضحًا أنه سيواجه صعوبة بالغة في النشر (مع أن سوق الكتاب يعاني نقصًا اليوم، وهذا يؤكد أن أي شيء يحمل صفة كتاب يمكن "بيعه")، وفي النهاية رفضه أربعة ناشرين. ناشر واحدٌ فقط من بين هؤلاء كانت له دوافع إديولوجية. اثنان كانا ينشران كتبًا مناهضة لروسيا لسنوات، ولم يكن للآخر لون سياسي جدير بالملاحظة. بدأ أحد الناشرين في الواقع بقبول الكتاب، لكنه قرّر بعد وضع الترتيبات الأوليّة استشارة وزارة الإعلام التي بدا أنها حذّرته، أو أنها على أي حال نصحته بشدة بعدم النشر. هو ذا مقتطف من رسالته:

ذكرتُ ردة الفعل التي تلقّيتها من مسؤول مهم في وزارة الإعلام فيما يخص "مزرعة الحيوان". لا بد لي من الاعتراف أن هذا التعبير عن الرأي دفعني إلى التفكير بجدّ... أستطيع أن أرى الآن كيف يمكن اعتبار نشر هذا الكتاب في الوقت الراهن أمرًا غير حكيم للغاية. لو أن الحكاية الرمزية تناولت الطغاة عمومًا والديكتاتوريات ككل، لكان النشر مناسبًا، لكن الحكاية تتتبّع تمامًا، كما أراها الآن، تقدّم الروس السوفييت وطاغيتيهما الاثنين، بحيث يمكن تطبيقها على روسيا فقط، مع استبعاد الديكتاتوريات الأخرى. شيء آخر: سيكون الأمر أقل إزعاجًا لو لم تكن الطبقة السائدة في القصة طبقة الخنازير [*]. أعتقد أن اختيار الخنازير طبقة حاكمة سيسبّب، بلا ريب، إزعاجًا لأناس كثيرين، خاصة الحساسين منهم بعض الشيء، كما هم الروس بلا شك.
*ليس من الواضح تمامًا إذا ما كان اقتراح التعديل هذا هو فكرة السيد... نفسه، أم أن مصدرها وزارة الإعلام، ولكن يبدو أنها تحمل وقعًا رسميّا. [ملحوظة أورويل[

هذا النوع من الأمور ليس من الأعراض الجيدة. من الواضح أنه ليس أمرًا مرغوبًا أن تكون لدائرة حكومية أي سلطة رقابية (عدا الرقابة الأمنية، والتي لا أحد يعترض عليها في زمن الحرب) على الكتب التي لا تحظى برعاية رسمية. غير أن الخطر الرئيس الذي يواجه حريّة التفكير والتعبير في هذه اللحظة ليس التدخّل المباشر من وزارة الإعلام أو أي جهة رسمية أخرى. فعندما يُجهد الناشرون والمحررون أنفسهم بتجنّب نشر مواضيع بعينها، فليس  ذلك لأنهم خائفون من الملاحقة القضائية، وإنما لأنهم خائفون من الرأي العام. الجبن الثقافي في هذه البلاد أسوأ عدو يمكن أن يواجهه الكاتب أو الصحافي، وهذه الحقيقة لا تبدو لي أنها أخذت النقاش الذي تستحق.
إن أي شخص ذي خبرة صحافية يتمتع بعقل راجح سيعترف أن الرقابة الرسمية في هذه الحرب، خصوصًا، ليست مزعجة. إننا لم نُخضَع لذلك النوع من "التنسيق" الشمولي بحيث يكون من المعقول توقّعه. للصحافة بعض التظلمات المبرّرة، بيد أن الحكومة عموما تتصرّف تصرّفًا حسنًا وهي متسامحة على نحو مثير للدهشة مع آراء الأقلية. إن الحقيقة المشؤومة للرقابة الأدبية في إنجلترا أنها طوعيّة إلى حدّ كبير.

يمكن إسكات الأفكار التي لا تحظى بشعبية، وإبقاء الحقائق المزعجة في الظلام دون الحاجة إلى أي حظر رسمي. إن أي شخص عاش طويلا في بلاد أجنبية يعرف أمثلة من مواد الأخبار المثيرة، التي وفق حيثياتها تجعل العناوين العريضة غير قابلة للنشر في الصحافة البريطانية، ليس لأن الحكومة تدخّلت، ولكن لأن ثمّة اتفاقًا ضمنيًّا أنه "لا يصلح" ذكر تلك الحقيقة بالذات. وكما تذهب الصحف اليومية، من السهل فهم ذلك. الصحافة البريطانية مركزية للغاية، وجلّها يمتلكه رجال أثرياء لديهم الدوافع كلّها ليكونوا غير صادقين بشأن موضوعات هامة بعينها. لكن النوع ذاته من الرقابة المحجبة يظهر أيضا في الكتب والدوريات، وكذلك المسرحيات والأفلام والإذاعة. في أية لحظة هناك عقيدة أرثوذوكسية، مجموعة من الأفكار التي يُفترض أن يقبلها جميع الأشخاص من ذوي التفكير السليم دون سؤال. ليس محظورا تمامًا قول هذا أو ذاك، ولكن "ليس من اللائق" قوله، تمامًا كما في منتصف العهد الفكتوري حين "لم يكن من اللائق" ذكر السراويل بحضور سيّدة. إن أي شخص يتحدّى العقيدة الأرثوذوكسية السائدة يجد نفسه معرّضًا للإسكات بفعالية مثيرة للدهشة. إن الرأي غير المتفق عليه على نحو صادق لا يحظى تقريبًا بأي سماع عادل أبدًا، سواء في الصحافة الشعبية أم في الدوريات الرفيعة.

تطلب العقيدة الأرثوذوكسية السائدة في هذه اللحظة إعجابًا بِروسيا السوفييتية خاليًا من النقد. الجميع يعرف هذا، والجميع تقريبا يتصرّف على هذا النحو. أي نقد جِدّ للنظام السوفييتي، أي كشف لحقائق تفضّل الحكومة السوفييتية إبقاءها طيّ الكتمان، يكون غير قابل للنشر. وتحدث مؤامرة تملّق الحليف الواسعة النطاق هذه على مستوى الأمة، على نحو غريب بما فيه الكفاية، في خلفيّة من التسامح الفكري الصريح. وفي حين إنه غير مسموح لك بانتقاد الحكومة السوفييتية، أنت حُرّ إلى حدّ معقول على الأقل أن تنتقد حكومتك. من العسير أن يتمكّن أي شخص من نشر هجوم يشنّه على ستالين، لكنه في مأمن تمامًا إذا ما هاجم تشرشِل، في الكتب والدوريات، في أي حال. وطوال خمس سنوات من الحرب، خلال سنتين أو ثلاث منها عندما كنا نقاتل من أجل بقاء الوطن، نُشِر ما لا يُحصى من الكتب والنشرات والمقالات المؤيدة للحل السلمي الوسط من دون أي تدخل. بل وأكثر من ذلك، فقد نُشرت دون أن تثير الكثير من الرفض. ما دام ليس هناك شيء يطال هيبة الاتحاد السوفييتي، يكون التمسك بمبدأ حرية التعبير تمسكًا عقلانيّا. ثمّة موضوعات ممنوعة أخرى، وسأذكر بعضًا منها في الوقت الحالي، بيد أن الاتجاه السائد نحو الاتحاد السوفييتي هو أكثر الأعراض خطورة. إنه، إن صح التعبير، عفوي وليس ناشئا عن تصرف جماعة ضاغطة.

إن الخنوع الذي ارتضته الغالبية العظمى من الإنتلجنسيا الإنكليزية التي راحت تجترّ الدعاية الروسية منذ عام 1941 فصاعدا، سيكون صادمًا تمامًا لو أنها لم تتصرف على نحو مماثل في مناسبات عديدة سابقة. في قضايا تلو الأخرى مثيرة للجدل، كانت وجهة النظر الروسية تُقبَل دون فحص ومن ثمّ تُنشَر بتجاهل تام للحقيقة التاريخية أو الذائقة الفكرية. ولسوق مثال واحد فقط، احتفلت هيئة الإذاعة البريطانية بالذكرى الخامسة والعشرين للجيش الأحمر من دون أن تأتي على ذكر تروتسكي. كان هذا دقيقًا دقّة الاحتفال بذكرى معركة الطرف الأغرّ من دون ذكر نِلسون، غير أنه لم يُثِر أي احتجاج من الإنتلجنسيا الإنكليزية. في الصراعات الداخلية في البلدان المحتلّة المختلفة، وقفت الصحافة البريطانية تقريبًا في جميع الحالات مع الفصيل المفضّل للروس وشهّرت بالفصيل المعارض، مُخفيةً أحيانا الأدلة المادية من أجل القيام بذلك. كانت الحالة الصارخة على وجه الخصوص حالة الكولونيل ميخائيلوفتش، القائد اليوغسلافي التشتنيكي[1]، عندما اتهمه الروس بالتعاون مع الألمان، وكانوا يروْن محميهم اليوغسلافي الخاص في المارشال تيتو. تبنّت الصحافة البريطانية هذا الاتهام على الفور: لم يُمنح مؤيدو ميخائيلوفتش فرصة الرد على الاتهام، والحقائق المناقضة له حُفظت ببساطة بعيدا عن النشر. في يوليو من عام 1943 عرض الألمان مكافأة قدرها 100.000 عملة ذهبية ثمنًا للقبض على تيتو، ومكافأة أخرى مماثلة للقبض على ميخائيلوفتش. "نشرت" الصحافة البريطانية المكافأة المعروضة ثمنا للقبض على تيتو في الصفحات الأولى، لكن صحيفة واحدة فقط ذكرت (بحروف صغيرة) مكافأة القبض على ميخائيلوفتش: وتواصلت تُهم التعاون مع الألمان. حدثت أمور مشابهة جدا في أثناء الحرب الأهلية الإسبانية. حينذاك، راحت الصحافة اليسارية الإنكليزية تشهّر بالفصائل في الجانب الجمهوري التي أصرّ الروس على سحقها، ورفضت نشر أي بيان بشأن دفاع الفصائل عن نفسها، حتى على هيئة رسالة. في الوقت الحاضر، ليست وحدها الانتقادات الشديدة للاتحاد السوفييتي تُعدّ مستهجنة، بل وحتى حقيقة وجود انتقادات كهذه تبقى سريّة في بعض الحالات. على سبيل المثال، قبل فترة وجيزة من وفاته، كتب تروتسكي سيرة حياة ستالين. يجوز للمرء أن يفترض أن الكتاب لم يكن غير منحازٍ تمامًا، لكن من الواضح أنه كان قابلا للبيع. رتّب ناشر أمريكي لإصداره وخرج الكتاب للنشر- أظن أن نُسخ المراجعة كانت قد أُرسلت- عندما دخل الاتحاد السوفييتي الحرب. ثمّ سُحب الكتاب فورا. ولم تظهر كلمة واحدة عن ذلك في الصحافة البريطانية، مع أنه من الواضح أن وجود كتاب كهذا وقمعه خبرٌ جديرٌ ببضع فقرات.

من المهم التمييز بين الرقابة التي تفرضها الإنتلجنسيا الأدبية الإنكليزية طوعًا على نفسها والرقابة التي يمكن أن تفرضها في بعض الأحيان مجموعات الضغط. من المعروف أن ثمة موضوعات معينة لا يمكن مناقشتها بسبب "المصالح الشخصية". القضية الأشهر هنا هي الضجة التي أثارها الدواء المرخّص. ومرة أخرى، تتمتع الكنيسة الكاثوليكية بنفوذ كبير في الصحافة ويمكنها إسكات النقد نفسه إلى حدّ ما. إن فضيحةً تضم كاهنًا كاثوليكيًّا لا تُعلَن مطلقًا تقريبًا، بينما يتصدّر خبر تورّط كاهن أنجليكاني (على سبيل المثال: كاهن ستِفكي)[2] عناوين الصحف. من النادر جدّا أن يظهر أي شيء ذي نزعة معادية للكاثوليكية على خشبة مسرح أو في فيلم. بمقدور أي ممثل أن يخبرك أن أي مسرحية أو فيلم يهاجم الكنيسة الكاثوليكية أو يسخر منها يكون عرضة للمقاطعة في الصحافة، وعلى الأرجح يكون مصيره الفشل. لكن هذا النوع غير مؤذ، أو مفهوم على الأقل. إن أي مؤسسة كبيرة ترعى مصالحها على أفضل وجه ممكن، والدعاية العلنية ليست شيئا يُعترض عليه. لن يتوقّع المرء أن تنشر ال"ديلي وُركر" حقائق غير مستحبّة عن الاتحاد السوفييتي أكثر من توقّعه أن تدين صحيفة "كاثوليك هِرالد" البابا. لكنّ أيّ شخص يفكّر يعرف حقيقة ديلي وُركر وكاثوليك هِرالد. ما يبعث على القلق هو أنه حيث كان للاتحاد السوفييتي أو سياساته شأن فليس بمقدور المرء أن يتوقع نقدا ذكيّا أو حتى، في كثير من الحالات، صدقًا واضحًا من كتّاب وصحفيين ليبراليين ليسوا تحت أي ضغط مباشر لتزييف آرائهم. ستالين مقدّس وثمّة جوانب في سياساته يجب ألا تُناقش نقاشا جِدّا. هذه قاعدة معروفة عالميًّا تقريبًا منذ عام 1941، لكنها كانت حاضرة إلى حدّ أكبر من معرفتها في بعض الأحيان، منذ عشر سنوات قبل ذلك. طوال تلك الفترة، كان نقد النظام السوفييتي من حزب اليسار بالكاد يلقى أذنا صاغية. كان هناك نتاج ضخم من الأدبيات المعادية لروسيا، لكنّ جلّه تقريبًا كان من وجهة نظر محافظة وغير صادق على نحو جلّي، ومنتهي الصلاحية، وتحرّكه دوافع دنيئة. في الجانب الآخر، كان هناك تيار ضخم من الدعاية الموالية لروسيا وغير شريف على حد سواء، ووصل إلى حد مقاطعة أي شخص يحاول مناقشة جميع المسائل الهامة بطريقة ناضجة. يمكنك بالفعل نشر كتب معادية لروسيا، لكنك لكي تفعل ذلك عليك أن تتأكد من أن الصحافة النخبوية بأكملها تقريبًا تتجاهل كتبك أو تحرّفها. سيجري تحذيرك سرًّا وعلانية أن ذلك "غير لائق". قد يكون ما قلته صحيحًا ولكنه "في غير محلّه" وينصبّ في نطاق هذه المصلحة أو تلك. ويُدافَع عن هذا التوجّه عادة بذريعة أنّه ما يفرضه الموقف الدولي والحاجة الماسّة إلى التحالف الأنجلوروسي، لكن من الواضح أنه كان تبريرًا. لقد طوّرت الإنتلجنسيا الإنكليزية أو جزء كبير منها ولاءً وطنيًّا تجاه الاتحاد السوفييتي، وتشعر في أعماقها أن إلقاء ظلال من الشك على حكمة ستالين يُعد ضربًا من التجديف. كان ينبغي الحكم على الأحداث في روسيا وفي أماكن أخرى بمعايير مختلفة. لقد لاقت الإعدامات اللانهائية في عمليات التطهير التي امتدت من عام 1936 إلى عام 1938 استحسانًا من المعارضين -مدى الحياة- لعقوبة الإعدام، وعلى حدّ سواء، عُدّ أمرا صائبا نشر أخبار المجاعات عندما اندلعت في الهند والتستر عليها عندما حدثت في أوكرانيا. وإذا كان ذلك صحيحا قبل الحرب، فمن المؤكد أن المناخ الفكري ليس بأفضل حال الآن.

لكنْ لنعد الآن إلى كتابي هذا. ستكون ردة فعل الإنتلجنسيا الإنكليزية تجاهه بسيطة للغاية: "ما كان ينبغي نشره". وبطبيعة الحال، فإن مراجعي الكتب الذين يعرفون فن التشويه، لن يهاجموا الكتاب لدواعٍ سياسية، وإنما لدواعٍ أدبية. سيقولون إنه كتاب سخيفٌ مضجر، وهدرٌ مشين للورق. وقد يكون ذلك صحيحًا، ولكن من الواضح أن هذا ليس القصة كلها. فالمرء لا يقول إن الكتاب "ما كان ينبغي نشره" فقط لأنه كتاب سيئ. في المحصلة، تُطبَع يوميًّا فدادين من القمامة ولا أحد يبالي. ستعترض الإنتلجنسيا الإنكليزية أو السواد الأعظم منها على هذا الكتاب لأنه يشهّر بقائدها (كما تراه) ويسبّب ضررا لقضية التقدم. ولو قدّم الكتاب العكس لما قالوا شيئا ضده، حتى لو كانت عيوبه الأدبية صارخة عشرات الأضعاف. إن النجاح الذي حقّقه نادي اليسار للكتاب، على سبيل المثال، على مدى أربع أو خمس سنوات يُظهر مدى رغبة الكُتّاب في التسامح مع الكتابة البذيئة والمبتذلة شريطة أن تقول لهم ما يودون سماعه.

القضية المعنية هنا بسيطة للغاية: هل يستحق كل رأي أن يُسمع، مهما كان بغيضًا، مهما كان أحمقَ؟ لنضعها في هذه الصيغة وكل مثقف تقريبًا من مثقفي الإنتلجنسيا الإنكليزية سيشعر بأن عليه أن يجيب بـ "نعم". ولكن لنعط العبارة شكلا ملموسًا ونسأل: "ماذا عن شنّ هجوم على ستالين؟" ألا يستحق ذلك السماع؟، وستكون الإجابة في كثير من الأحيان: "لا". في هذه الحالة يحدث أن تخضع العقيدة الأروثوذكسية للتحدي، وهكذا يتراجع مبدأ حريّة التعبير. عندما يطالِب المرء بحريّة التعبير والصحافة، فهو لا يطالب بالحريّة المطلقة. يجب أن يكون هناك، أو سيكون هناك دائمًا، على أي حال، قدر من الرقابة طالما عانت منه المجتمعات المنظمة. لكن الحريّة، كما قالت روزا لوكسمبورغ[3]: "الحريّة للرفيق الآخر". ويرِد المبدأ ذاته في عبارة فولتير الشهيرة: "أمقت ما تقول، لكنني سأدافع حتى الموت عن حقّك في قوله". إذا كانت الحريّة الفكرية، التي هي دون شك علامة بارزة في الحضارة الغربية، تعني أي شيء على الإطلاق، فإنها تعني أن لكل شخص الحق في قول ونشر ما يعتقد أنه الحقيقة، بشرط ألا يسيء اعتقاده هذا لباقي أفراد المجتمع بطريقة لا لبس فيها مطلقًا. لقد اتخذت الديمقراطية الرأسمالية والنسخة الغربية من الاشتراكية هذا المبدأ حتى وقت قريب كأمر مفروغ منه. لا تزال حكومتنا، كما أشرت سابقا، تظهر بعض الاحترام لهذا المبدأ. ربما، لأنهم ليسوا مهتمين اهتمامًا كافيًا بالأفكار غير المتسامحة، ما يزال الناس العاديون في الشارع يتمسكون تمسكًا غامضًا بالقول: "أعتقد أن لكل شخص الحق في إبداء رأيه". إنها فقط أو بشكل رئيس على أي حال، الإنتلجنسيا الأدبية والعلمية، الفئة إيّاها التي ينبغي أن تكون حارسة الحريّة، هي التي بدأت تمقت هذه المقولة، نظريةً وممارسةً.

إحدى الظواهر الغريبة في زماننا هي الليبرالي المارق. إضافة إلى الدعوى الماركسية المألوفة بأن "الحريّة البرجوازية" وهم، هناك الآن توجّه واسع النطاق يجادل بأن المرء لا يستطيع الدفاع عن الديمقراطية إلا بالأساليب الشمولية. ويذهب الجدال إلى أنه إذا أحبّ المرء الديمقراطية، يجب عليه أن يسحق أعداءها بغضّ النظر عما يعنيه ذلك. ومن هم أعداؤها؟ طالما تبيّن أنهم ليسوا فقط من يهاجمونها مهاجمة مُعلنة وواعية، بل هم أيضًا أولئك الذين يعرضونها للخطر "بموضوعية"، من خلال نشر معتقدات خاطئة. بعبارة أخرى، ينطوي الدفاع عن الديمقراطية على تدمير استقلالية التفكير برمّتها. استُخدمت هذه الحجة، على سبيل المثال، لتبرير عمليات التطهير الروسية. ولا يكاد أكثر المتعاطفين المتحمسين لروسيا يصدّق أن جميع الضحايا يتحمّلون ذنب جميع الأفعال التي اتُّهموا بارتكابها، لكنهم بسبب اعتناقهم آراء مهرطقة، آذوا النظام "بموضوعية"، ومن ثمّ، كان صائبًا تمامًا، ليس فقط في ارتكاب مجزرة بحقّهم، بل وتشويه سمعتهم من خلال اتهامات باطلة. استُخدمت الحجة نفسها لتبرير الكذبة الواعية للغاية التي سرت في الصحافة اليسارية عن التروتسكيين وغيرهم من الأقليات الجمهورية في الحرب الأهلية الإسبانية. واستُخدمت مجدّدا كسبب للصراخ ضد أمر إحالة موزلي[4] للقضاء عندما أُطلق سراحه في عام 1943.

إن هؤلاء الناس لا يرون أنك إذا شجّعت الأساليب الشمولية فقد يحين الوقت الذي ستُستخدم فيه هذه الأساليب ضدك بدلا من استخدامها لصالحك. اجعل من سَجن الفاشيين دون محاكمة عادة، وقد لا تتوقف العملية عند الفاشيين. بعد فترة وجيزة من عودة "ديلي وُركر"، كنت أحاضر في كليّة للعمال في جنوب لندن. كان الجمهور من الطبقة العاملة والطبقة المثقفة الوسطى الدنيا، الجمهور نفسه الذي تعوّدت لقاءه في فروع النادي اليساري للكتاب. تطرّقت المحاضرة إلى حريّة الصحافة، وفي النهاية، وسط دهشتي، وقف العديد من السائلين وسألوني: ألا تعتقد أن رفع الحظر عن الـ"ديلي وُركر" كان خطأ فادحًا؟ وعندما سألتُ لماذا قالوا لأنها صحيفة مشكوكٌ في ولائها ولا ينبغي التسامح معها في زمن الحرب. وجدت نفسي منافحًا عن "ديلي وُركر" التي بذلت جهدها للتشهير بي أكثر من مرة. ولكن من أين تعلّم هؤلاء الناس هذه النظرة الشمولية في الأساس؟ لقد تعلّموها من الشيوعيين أنفسهم بالتأكيد! التسامح واللباقة متجذران بعمق في إنجلترا، لكنهما ليسا غير قابلين للتدمير، وينبغي إبقاؤهما حيّين، جزئيًّا، بالجهد الواعي. نتيجة الوعظ بالمذاهب الشمولية هي إضعاف الغريزة التي بواسطتها يعرف الناس الأحرار ما هو خطير وما ليس بخطير. قضية موزلي توضح ذلك. في عام 1940 كان من الصائب تمامًا اعتقال موزلي، سواء اقترف جريمة تقنية أو لا. كنا نقاتل من أجل حياتنا، ولا يمكننا السماح لخائن محتمل أن يكون طليقًا. لقد كان عارًا أن يجري إسكاته من دون محاكمة في عام 1943. كان الفشل العام في رؤية ذلك من الأعراض السيئة، مع أنه صحيح أن التحريض ضد إطلاق سراح موزلي كان بعضٌ منه متكلّفا وبعضه الآخر تبريرًا لاستياءات أخرى. ولكن كم من الممارسات في وقتنا الحاضر ينزلق تجاه الطرق الفاشية في التفكير يمكن عزوه إلى "معاداة الفاشية" في العشر سنوات الماضية وإلى انعدام المبادئ الذي تستلزمه هذه المعاداة؟  

من المهم أن ندرك أن الهوس الحالي بالرّوس ليس سوى أحد أعراض الضعف العام في التقليد الليبرالي الغربي. لو تدخلت وزارة الإعلام واعترضت اعتراضًا قاطعًا على نشر هذا الكتاب، فلن يرى السواد الأعظم من الإنتلجنسيا الإنكليزية أن في هذا ما يزعج. وقد حدث أن أصبح الولاء غير الناقد للاتحاد السوفييتي هو العقيدة الأرثوذوكسية الحالية، وعندما يتعلق الأمر بمصالح الاتحاد السوفييتي المفترضة فإن المثقفين مستعدون للتسامح ليس مع الرقابة وحسب، بل وحتى مع التزييف المتعمّد للتاريخ. ولنذكر مثالا واحدا؛ عندما توفي جون رِيد، مؤلف "عشرة أيام هزّت العالم" – الذي كان بمنزلة شهادة شاهد عيان على الأيام الأولى للثورة الروسية- وقعت حقوق تأليف الكتاب ونشره في يد الحزب الشيوعي البريطاني، وأعتقد أن رِيد ترك الكتاب إرثًا للحزب. بعد بضع سنوات، وإثر تدميرهم النسخة الأصلية من الكتاب تدميرا كاملا قدر استطاعتهم، أصدر الشيوعيون البريطانيون نسخة مشوهة ألغوا منها كل ذكر لتروتسكي وحذفوا أيضا المقدمة التي كتبها لينِن. لو كانت هذه الإنتلجنسيا المتطرّفة ما تزال موجودة في بريطانيا، لتعرّض فعل التزييف هذا للفضح والتنديد في كل صحيفة أدبية في البلاد. وكما كان الحال، فقد كان هناك القليل من الاعتراض أو لا شيء منه. وبالنسبة إلى الكثير من المثقفين الإنكليز بدا فعل ذلك أمرا طبيعيًّا. وهذا التسامح أو الخيانة الصريحة تعني أكثر بكثير من أن الإعجاب بروسيا كان سائدا في تلك اللحظة. من الممكن أن ذلك السائد ما كان ليدوم. لأنني أعرف أنه بحلول الوقت الذي سيُنشر فيه هذا الكتاب، قد يصبح رأيي في النظام السوفييتي الرأي المقبول عمومًا. ولكن ما فائدة ذلك بحدّ ذاته؟ فاستبدال عقيدة أرثوذوكسية بأخرى لا يُعدّ تقدّمًا بالضرورة. العدو هو العقل الحاكي، سواء اتفق المرء أو اختلف مع التسجيل الذي يبثّه الغراموفون في الوقت الراهن.

إنني على دراية تامة بجميع الحجج المسوقة ضد حريّة التفكير والتعبير، الحجج التي تدّعي أن هذه الحريّة لا يمكن أن توجد، والحجج التي تدّعي أنها لا ينبغي أن توجد. وأجيب أنها ببساطة لا تقنعني وأن حضارتنا التي يتجاوز عمرها الأربعمئة عام قد تأسّست على النقيض من ذلك. ذلك أنه لعشر سنوات خلت وأنا أظن أن النظام الروسي القائم هو في الأساس شرّ، وأزعم الحق في قول ذلك رغمًا عن حقيقة أننا حلفاء الاتحاد السوفييتي في حرب أودّ أن أراها تكسب. إن كان عليّ أن أختار نصًّا لتبرير قولي فسأختار عبارة لِمِلتون:

"وفقًا للقواعد المعروفة للحريّة القديمة".

تؤكّد كلمة "قديمة" حقيقة أن الحريّة الفكرية تقليد عميق الجذور من دونه سيكون وجود ثقافتنا الغربية المميزة مشكوكًا فيه. وهناك العديد من مثقفينا ممن تحوّل عن هذا التقليد تحولا واضحا. لقد قبلوا مبدأ نشر الكتاب أو قمعه، ممدوحًا كان أم مذمومًا، ليس وفق حيثياته، وإنما وفق مصالح سياسية. أما الآخرون الذين لا يعتنقون هذا الرأي فيوافقون عليه من منطلق جبن محض. ومثال على ذلك فشل الأعداد الهائلة من دعاة السلام الإنكليز في رفع أصواتهم ضد العبادة السائدة للعسكرية الروسية. وحسب دعاة السلام هؤلاء، فإن العنف بأنواعه شرّ، وقد حثّونا في كل مرحلة من مراحل الحرب على الاستسلام أو على الأقل التوصل إلى حل سلمي وسط. ولكن، كم من هؤلاء حدث وأن اقترح أن الحرب شرّ كذلك عندما يشنّها الجيش الأحمر؟ يبدو أن للروس الحق في الدفاع عن أنفسهم، في حين أن نفعل نحن ذلك يُعدّ خطيئة مُهلكة. لا يمكن للمرء أن يفسّر هذا التناقض إلا بطريقة واحدة: وهي رغبة جبانة لمحاباة السواد الأعظم من الإنتلجنسيا التي توجّه وطنيتها نحو الاتحاد السوفييتي وليس نحو بريطانيا. أعلم أن لدى الإنتلجنسيا الإنكليزية أسبابا كافية لجبنها وعدم إخلاصها، وفي الواقع أحفظ عن ظهر قلب الحجج التي تسوقها لتبرير نفسها. ولكن لا مزيد من الهراء حول الدفاع عن الحريّة ضد الفاشية. إن كانت الحريّة تعني أي شيء على الإطلاق، فهي تعني الحق في أن نقول للناس ما لا يودّون سماعه. لا يزال الناس العاديون يقبلون هذا المبدأ قبولا غامضًا ويتصرّفون وفقه. في بلادنا- والوضع ليس نفسه في جميع البلدان، لم يكن كذلك في الجمهورية الفرنسية، وهو ليس كذلك في الولايات المتحدة الأمريكية اليوم- الليبراليون هم من يخافون الحريّة والمثقفون هم من يريد أن يمارس القذارة على الفكر. ولكي أسترعي الانتباه إلى هذه الحقيقة كتبتُ هذه المقدمة.



[1]  التشتنيك: إحدى المنظمات الصربية المتطرّفة. [المترجمة]
[2]  يُقصَد به هارولد دافِدسون، كاهن أبرشية قرية ستِفكي -الواقعة على الساحل الشمالي لمدينة نورفولك البريطانية- الذي واجه تهمة الفسق والفجور وعُزِل من منصبه في عام 1932. [المترجمة]

[3]  منظّرة ماركسية وفيلسوفة واشتراكية ثورية (1871-1919). [المترجمة]
[4]  سير أوزوالد موزلي (1896-1980): سياسي إنجليزي وزعيم فاشي، كانت لحزبه مواجهات عنيفة مع الجماعات الشيوعية واليهودية. اعتقلته السلطات البريطانية في عام 1940. [المترجمة]

الاثنين، 1 أكتوبر 2018

كهف الريح

كهف الريح

هاروكي موراكامي


عندما كنتُ في الخامسة عشرة ماتت أختي الصغيرة. حدث ذلك بغتةً. كانت في الثانية عشرة في سنتها الأولى في المدرسة الثانوية الدنيا. لقد وُلدت بمشكلة خِلقية في القلب، ولكنها منذ آخر عملية جراحية أُجريت لها عندما كانت في الصفوف العليا من المدرسة الابتدائية لم تبدُ عليها أيَّة أعراض أخرى، فاطمئنت عائلتي متشبِّثة بأمل واهن بأنَّ حياتها ستمضي من دون حوادث. ولكن، في مايو من ذلك العام، أصبح نبض قلبها غير منتظم على نحو أكبر. كان الأمر يسوء خصوصًا عندما تستلقي في الفراش، ولم يكن بوسعها النوم ليالي كثيرة. خضعت للفحص في مشفى الجامعة، ولكن مهما كانت الفحوص دقيقة لم يستطع الأطباء تحديد التغيّر بدقة في حالتها. وقد كانت المشكلة الأساسية تُحلّ ظاهريًّا بالعمليات الجراحية، وكان الأطباء يحارون في أمرها.
"تجنّبي التمارين المجهدة واتبعي روتينًا منتظمًا وستستقر الأوضاع قريبًا." قال طبيبها. لعلَّ ذلك كان كلّ ما بوسعه قوله، وكتب لها عدة وصفات طبية.
بيْد أنَّ عدم انتظام نبض قلبها لم يستقر. عندما كنت أجلس إلى مائدة الطعام في الجهة المقابلة لها، كنت كثيرًا ما أنظر إلى صدرها وأتخيّل القلب داخله. كان نهداها قد بدآ بالنموِّ بدرجة ملحوظة. ومع ذلك، داخل ذلك الصدر كان قلب أختي مختلّا. وحتى الاختصاصي لم يتمكّن من تحديد الخلل. تلك الحقيقة وحدها كانت تسبب الاضطراب في عقلي. لقد عشتُ مراهقتي في حالة من القلق والخوف من أنني قد أفقد أختي الصغيرة في أيَّة لحظة.
أخبرني والداي أن أعتني بها لأنَّ جسدها كان ضعيفًا جدًّا. وعندما كنّا ندرس في المدرسة الابتدائية نفسها، كنت دائمًا ما أراقبها. وإن دعت الحاجة فقد كنت مستعدا للمخاطرة بحياتي لحمايتها وحماية قلبها الصغير. بيْد أنَّ الفرصة لم تكشف عن نفسها قطّ.
كانت في طريق العودة من المدرسة إلى البيت ذات يوم عندما سقطت. فقدت وعيها حين كانت تصعد السلالم إلى محطة سيبو شينجوكو، فسارعت بها سيارة الإسعاف إلى أقرب غرفة طوارئ. ولمَّا سمعت بالأمر هُرِعت إلى المشفى، ولكن في الوقت الذي وصلت فيه كان قلبها قد توقَّف. حدث كلُّ شيء في طرفة عين. كنَّا قد تناولنا الإفطار سويًّا ذلك الصباح وودَّعنا بعضنا بعضًا أمام الباب، أنا في طريقي إلى المدرسة الثانوية العليا وهي في طريقها إلى المدرسية الثانوية الدنيا. في المرة التالية التي رأيتها فيها كانت قد توقفت عن التنفُّس. أُغلِقت عيناها الكبيرتان إلى الأبد، وكان فمها مفتوحًا قليلا وكأنها على وشك قول شيء ما.
وفي المرة التالية التي رأيتها فيها كانت في تابوت. كانت ترتدي ثوبها المخملي الأسود المفضَّل وعلى وجهها لمسة من مساحيق التجميل وشعرها مُمشَّطٌ بعناية، وتنتعل حذاء جلديًّا صقيلا أسود، وترقد ووجهها للأعلى في التابوت المتواضع الحجم. وكان للثوب ياقة بيضاء برباط، شديدة البياض إلى حدّ أنها بدت متكلّفة.
وهي ترقد هناك، بدت نائمة بسلام. بدت وكأنها ستستيقظ إذا ما هززتَها بلطف. بيْد أنَّ ذلك كان وهمًا. هُزَّها كما تشاء، ولن تستيقظ ثانيةً أبدًا.
لم أكن أودُّ أن يُحشَر جسد أختي الضئيل الرهيف في ذلك الصندوق المقيِّد الضيق. شعرتُ أنَّ جسدها ينبغي أن يُهجَع ليستريح في مكان فسيح. في وسط مرج مثلا. سنمضي بصمت إلى زيارتها ونشقّ طريقنا بين الأعشاب الخضراء الوارفة. ستُهفْهِف الريحُ العشبَ ببطء، وتتصايح الطيور والحشرات حولها. ستملأ رائحةُ الزهور البرية الرطبة الهواءَ، ويتطاير غبار اللقاح. وعندما يهبط الليل ستزدان السماء فوقها بنجوم فضية لا حصر لها. في الصباح، شمس جديدة ستجعل قطرات الندى تتلألأ فوق العشب كالجواهر. بيْد أنها في الواقع محشورة داخل تابوت تافه. كانت الزخارفُ الوحيدة المحيطة بتابوتها زهورًا بيضاء مشؤومة قُطفت ووُضعت في مزهريات. كانت إضاءة الغرفة الضيقة ساطعة وخالية من اللون. من مكبِّر صوت صغير في السقف انبعثت أنغام متكلفة لموسيقى الأرغن.
لم أحتمل رؤيتها تُحرَق. عندما سُدَّ غطاء التابوت وأُغلِق غادرتُ الغرفة. لم أقدِّم يد المساعدة حين وضعت عائلتي عظامها على نحو طقوسي في جرَّة. خرجت إلى فناء المحرقة وبكيت بصوت مكتوم. خلال حياتها القصيرة جدًّا، لم أساعد أختي الصغيرة قطّ، وقد آلمتني تلك الفكرة إيلامًا شديدًا.
بعد وفاة أختي تغيَّرت عائلتي. أصبح أبي أكثر صمتًا، وأمي أكثر عصبية وتوترًا. وفي الأساس واصلت الحياة نفسها كما فعلت دائمًا. انضممت إلى نادي تسلُّق الجبال في المدرسة مما جعلني أنشغل، وإن لم أكن أفعل ذلك كنت أمارس الرسم الزيتي. نصحني معلم الفنون أن أجد مدربًا جيدًا وأن أدرس الرسم حقًّا. وحين بدأت أخيرًا أحضر حصصًا في الفن أصبح اهتمامي جادًّا. أظن أنني كنت أحاول إشغال نفسي كي لا أفكِّر في أختي المتوفاة.
زمنًا طويلا – لست متيقنًا كم من الأعوام – ترك والداي غرفتها تمامًا كما هي. الكتب الدراسية والأدلة والأقلام والمماحي ومشابك الأوراق المكدّسة فوق منضدتها، الشراشف والبطانيات والوسائد فوق سريرها، مناماتها المكويَّة والمطويَّة وزيُّها المدرسي المعلَّق في الخزانة، كلُّها بقيت بلا مساس. الروزنامة على الحائط ما تزال تحمل جدولها مسجلا بخط يدها الصغير. تُركت في الشهر الذي ماتت فيه وكأنَّ الزمن تجمَّد في تلك اللحظة. بدا وكأنَّ الباب سيُفتح في أي لحظة وستدخل هي. حين لا يكون هناك أحد غيري في البيت، كنت أذهب أحيانًا إلى غرفتها، أجلس بهدوء على سريرها المرتّب وأنظر حولي. لكنني لا أملس شيئًا على الإطلاق. لم أرغب أن أزعج ولو قليلا أيًّا من الأشياء الصامتة التي تركتها وراءها، إشارات إلى أنَّ أختي كانت بين الأحياء يومًا ما.
طالما حاولت تخيَّل الحياة التي ستعيشها أختي لو أنها لم تمت في الثانية عشرة. مع أنه لم تكن ثمَّة من طريقة لمعرفة ذلك. لم أستطع تصوُّر حتى ما ستكون عليه حياتي، ولهذا لم أعرف أي شيء كان سيحمله مستقبلها. بيْد أنني أعرف أنها لو لم تكن تعاني مشكلة في أحد صمامات قلبها لكبرت وأصبحت فتاة بارعة وجذابة. إنني على يقين أنَّ رجالا عديدن سيحبونها وسيأخذونها بين أذرعهم. إلا أنني لا أستطيع تصوُّر ذلك بالتفصيل. إنها في عيني أختي الصغرى إلى الأبد، التي تصغرني سنينا ثلاثا وتحتاج حمايتي.
بعد وفاتها أخذت أرسمها بعض الوقت مرارًا وتكرارًا. رحت أنسخ في كراسة رسمي ما أتذكره من وجهها من زوايا مختلفة كي لا أنساه. ليس لأنني كنت على وشك أن أنسى وجهها. سيبقى محفورًا في عقلي إلى يوم مماتي. ما كنت أسعى إليه هو ألا أنسى الوجه الذي أتذكره في ذلك الحين. ولكي أفعل ذلك كان عليَّ أن أمنحه شكلا بالرسم. كنت في الخامسة عشرة وحسب حينها، وهناك الكثير لم أكن أعرفه عن الذكرى والرسم ومرور الزمن. بيْد أنَّ شيئًا واحدًا عرفته وهو أنني بحاجة إلى فعل شيء للتشبُّث بتسجيل دقيق من ذاكرتي. اتركه وشأنه وسيختفي في مكان ما. مهما كانت الذاكرة حيَّة فإن سطوة الزمن أقوى. لقد عرفت ذلك غريزيًّا.
كنت أجلس وحدي في غرفتها أرسمها. حاولت أن أرسم على الورقة الخالية كيف بدت في عين عقلي. كنت أفتقر إلى التجربة حينها وإلى المهارة الفنية اللازمة، ولذا لم تكن العملية يسيرة. كنت أرسم وأمزق، وأرسم وأمزق بلا نهاية. ولكنني عندما أنظر الآن إلى الرسوم التي احتفظت بها (ما زلت متعلِّقًا بكراسة رسمي منذ تلك الأيام)، أستطيع أن أرى أنها تفيض بإحساس صادق بالألم. قد تبدو غير ناضجة فنيًّا، ولكنها كانت نتيجة جهد خالص، كانت روحي تحاول إيقاظ روح أختي. عندما أنظر إلى هذه الرسوم، لا أستطيع منع نفسي من البكاء. لقد أنجزت رسومًا لا حصر لها منذ ذلك الحين، ولكن لا شيء آخر مما رسمت أسال دمعي هكذا أبدًا.
كان لموت أختي أثر آخر فيَّ: لقد أثار حالة عنيفة جدًّا من رهاب الاحتجاز. منذ أن رأيتها ممدَّدة في ذلك التابوت الصغير الضيق، وقد أُغلق عليها الباب وأوصد جيّدًا ثم أُخذت للحرق وأنا عاجز عن دخول الأماكن المغلقة الضيقة. مدةً طويلة لم أستطع استخدام المصعد الكهربائي. أقف أمام المصعد وكل ما أفكر فيه تلقائيًّا هو أنه سينغلق وثمَّة زلزال وأنا محاصر داخل ذلك المكان الضيق. مجرد التفكير كان كافيًا لإثارة شعور خانق بالهلع.
لم تظهر هذه الأعراض مباشرة بعد وفاة أختي. أخذت ثلاث سنوات تقريبًا حتى ظهرت إلى السطح. كانت أول مرة أصبت فيها بنوبة هلع بُعيْد بدء الدراسة في كلية الفنون عندما كنت أعمل بدوام جزئي في شركة نقل بضائع. كنت مساعد سائق شاحنة نحمل فيها الصناديق وننزلها، وذات يوم أُغلق عليَّ الباب خطأً داخل مقصورة الشحن الفارغة. كان عمل اليوم قد انتهى ونسي السائق أن يتيقَّن من عدم وجود شخص في الشاحنة. أَغلق الباب الخلفي من الخارج.
مضت ساعتان ونصف قبل أن يُفتح الباب وأستطيع الزحف خارجًا. طوال ذلك الوقت كنت محتجزًا داخل مكان مغلق ومظلم تمامًا. لم تكن شاحنة تبريد أو ما شابه، ولذا كان هناك فجوات يدخل منها الهواء. لو أنني فكَّرت في الأمر بهدوء لأدركت أنني لن أختنق.
ولكن رغم ذلك، تمكَّن مني ذعر شديد. كان هناك أكسجين كاف، ومع ذلك، مهما تنفست بعمق لم أكن لأستطيع امتصاصه. أصبح تنفسي مرهقًا وبدأ معدَّل تنفسي يزيد. شعرت بالدُّوار. "لا بأس، اهدأ." قلتُ لنفسي. "ستتمكن من الخروج قريبًا. مُحال أن تختنق هنا." لكن المنطق لم ينجح. كان الشيء الوحيد في عقلي هو أختي الصغيرة وهي محشورة في تابوت صغير وقد سُحب إلى المحرقة. مذعورًا أخذت أدقُّ جدران الشاحنة.
كانت الشاحنة في مواقف الشركة وجميع الموظفين عادوا إلى بيوتهم بعد انتهاء اليوم. لم يلاحظ أحد غيابي. رحت أدقُّ بجنون ولكن بدا أن لا أحد كان يسمعني. عرفت أنني إن لم يحالفني الحظ فسأبقى محتجزًا هناك حتى الصباح. عند هذه الفكرة شعرت وكأنَّ عضلاتي كلّها على وشك التمزُّق.
كان حارس الأمن الليلي الذي يقوم بجولاته في الموقف هو من سمع أخيرًا الضجة التي أحدثتها وفتح الباب. لمَّا رأى كم كنت هَلِعًا ومنهكًا جعلني أستلقي على السرير في غرفة استراحة الشركة وقدَّم لي كوبًا من الشاي الساخن. لا أعلم كم مضى من الوقت وأنا مستلق هناك. بيْد أنَّ تنفسي عاد منتظمًا أخيرًا. أقبل الفجر، شكرت الحارس واستقللت أول قطار في اليوم عائدًا إلى البيت. انزلقت إلى سريري واستلقيت هناك منتفضًا كمجنون وقتًا طويلا.
منذ ذلك الحين أصبح استخدامي المصعد الكهربائي يثير فيَّ الذعر نفسه. لا بدَّ أنَّ الموقف أيقظ خوفًا كان متواريًا بداخلي. يخامرني شكٌّ طفيف أن تكون ذكرى موت أختي قد حرَّضته. ولم يقتصر الأمر على المصاعد، بل وأي مكان مغلق. لم أستطع حتى رؤية الأفلام ذات مشاهد في غواصات أو صهاريج. مجرد تخيُّل نفسي محتجزًا داخل أماكن ضيقة كهذه – مجرد تخيُّلي ذلك – يجعلني غير قادر على التنفس. غالبًا كان عليّ أن أقف وأنصرف من القاعة. لذلك كان من النادر أن أذهب إلى السينما بصحبة شخص آخر.
عندما كنت في الثالثة عشرة وأختي في العاشرة، سافرنا وحدنا إلى ياماناشي برِفكتشر في أثناء العطلة الصيفية. كان خالُنا يعمل في مختبر أبحاث في إحدى الجامعات في ياماناشي وذهبنا لنقيم معه. كانت هذه رحلتنا الأولى كطفلين نقوم بها بأنفسنا. كانت أختي تشعر بتحسن نسبيًّا ذلك الحين، ولهذا سمح لنا أبوانا بالسفر وحدنا.
كان خالنا أعزبا (وما يزال حتى الآن) وقد بلغ الثلاثين توًّا كما أعتقد. كان يجري بحثًا في الجينات (وما يزال)، هادئ جدًّا وروحانيّ بعض الشيء، رغم أنه شخص منفتح وصريح. يحب القراءة ويعرف كل شيء عن الطبيعة. كان يجد متعة في التنزُّه في الجبال أكثر من أي شيء، ولهذا كما قال قد التحق بعمل جامعي في ياماناشي الجبلية الريفية. كنت وأختي نحب خالي كثيرًا.
حملنا حقائبنا على ظهورنا، ركبنا قطارًا سريعًا في محطة شينجوكو المتجه إلى ماتسوموتو، وترجَّلنا في كوفو. جاء خالنا لاستقبالنا في محطة كوفو. لقد كان طويل القامة بصورة مذهلة، وحتى في المحطة المزدحمة استطعنا تمييزه فورًا. استأجر منزلا صغيرًا في كوفو مع صديق له، لكنَّ صديقه كان مسافرًا ولذا أقمنا في غرفته. قضينا أسبوعًا في ذلك البيت. وكنَّا كل يوم تقريبًا نخرج في نزهات مع خالنا في الجبال القريبة. علَّمنا أسماء أنواع مختلفة من الزهور والحشرات. كنَّا نعتزّ كثيرًا بذكريات ذلك الصيف.
ذات يوم مشينا أبعد من المعتاد وزرنا كهف ريح قريبًا من جبل فوجي. كان هذا الكهف أكبر كهوف الريح الكثيرة المحيطة بجبل فوجي. أخبرنا خالنا كيف تشكَّلت هذه الكهوف. تكوَّنت من البازلت، ولذا فإنك لا تكاد تسمع أصداء داخلها، قال. وحتى في الصيف تبقى حرارتها منخفضة، وكان الناس في الماضي يحفظون الثلج الذي يحصلون عليه في الشتاء داخل الكهوف. شرح لنا الفرق بين نوعين من الكهوف: كهوف فوكِتسو الكبيرة التي التي تتسع بشكل كاف للأشخاص لدخولها، وكهوف كازا-آنا الصغيرة التي لا يستطيع الناس دخولها. كلا الاسمين قراءة بديلة للمفردتين الصينيتين نفسيهما التين تعنيان "ريح" و"ثقب." بدا خالي يعرف كل شيء.
في كهف الريح تدفع رسوم دخول وتمضي إلى الداخل. لم يذهب خالنا معنا. دخل إلى هناك مرات كثيرة، كما إنه طويل القامة وسقف الكهف منخفض جدًّا وقد ينتهي به الأمر إلى أن يعاني ألم الظهر. قال: "إنه ليس خطيرًا فاذهبا أنتما الاثنان. سأبقى عند المدخل وأقرأ كتابًا." عند المدخل أعطى الشخص المسؤول كلا منَّا مصباحًا يدويًّا ووضع خوذتين صفراوين من البلاستيك فوق رأسينا. كانت هناك أضواء في سقف الكهف، ولكنَّ الكهف بدا مظلمًا جدًّا من الداخل رغم ذلك. كلما مضينا بعيدًا في الكهف كان السقف أكثر انخفاضًا. لا عجب أنَّ خالنا الهزيل الطويل القامة تخلَّف عن المجيء.
أضأت وأختي المصباحين اليدويين ونحن نمشي. كان الوقت منتصف الصيف في الخارج – تسعون درجة فهرنهايت – ولكنَّ الجو كان باردًا داخل الكهف، أقل من الخمسين درجة. عملًا بنصيحة خالنا، ارتدى كلانا سترة واقية غليظة أحضرناهما معنا. أمسكت أختي بيدي بقوة، إمَّا رغبة منها في أن أحميها أو أملا في أن تحميني (أو لعلَّها لم تودّ أن ينفصل أحدنا عن الآخر). طوال الوقت الذي قضيناه داخل الكهف كانت تلك اليد الصغيرة الدافئة في يدي. كان الزائرون الآخرون فقط زوجين في منتصف العمر. بيْد أنهما سرعان ما غادرا وبقينا نحن الاثنين فقط.
كان اسم أختي الصغيرة كوميتشي، إلا أنَّ كل من في العائلة يدعوها كومي. وأصدقاؤها يدعونها ميتشي أو ميتشان. وبحسب علمي لم يدعها أحد باسمها الكامل، كوميتشي. كانت فتاة نحيفة صغيرة. كان لها شعر أسود ناعم، مقصوص بعناية أعلى كتفيها. كانت عيناها كبيرتين بالنسبة إلى حجم وجهها (بِبؤبؤين كبيرين)، مما جعلها تشبه جنيَّة. ارتدت في ذلك اليوم تِي شيرتا أبيض، وجينزًا باهتًا وحذاءً رياضيًّا ورديًّا.
بعد مضينا بعيدًا في الكهف اكتشفت أختي كهفًا صغير الحجم يبعد قليلا عن الطريق المحدَّد. كان فمه مختفيا في ظلال الصخور. كانت مهتمة جدًّا بذلك الكهف الصغير. سألتني: "ألا تعتقد أنه يبدو مثل حفرة أرنب ألِس؟"       
كانت أختي مغرمةً ب"مغامرات ألِس في بلاد العجائب" لِلويس كارول. لا أعلم كم من المرات جعلتني أقرأ لها الكتاب. لا بدّ أنها مائة مرَّة على الأقل. لقد بدأت تقرأ منذ أن كانت طفلة، إلا أنها أحبَّت أن أقرأ لها ذلك الكتاب بصوت عال. ومع أنها حفظت القصة، كانت تأخذها الحماسة في كل مرة أقرأها. جزؤها المفضَّل كان عن الكركند كوادريل. إنني أتذكر حتى الآن ذلك الجزء كلمةً كلمة.
قلت: مع أنّه لا يوجد أرنب.
قالت: سألقي نظرة على الداخل
قلت: كوني حذرة.
لقد كانت حفرة ضيقة حقًّا (تشبه كازا-آنا بحسب تعريف خالي)، بيْد أنَّ أختي الصغيرة كانت قادرة على الانزلاق فيها دون عناء. كان معظم جسدها في الداخل وخرج النصف السفلي من ساقيها فقط. بدا وأنها قد أشعلت مصباحها اليدوي داخل الحفرة. ثم خرجت ببطء إلى الوراء.
أخبرتني قائلة: تبدو الحفرة عميقة في الخلف. الأرضية تنخفض بحدَّة. تمامًا مثل حفرة أرنب ألِس. سأعود وأستكشف نهايتها.
قلت: كلا لا تفعلي. إنه خطر جدًّا.
لا بأس. أنا صغيرة الحجم وبوسعي الخروج. لا بأس.
خلعت سترتها الواقية، فبقيت بالتِي شيرت وناولتني السترة والخوذة. وقبل أن أتفوَّه بكلمة اعتراض كانت قد شقَّت طريقها متلويَّةً إلى داخل الكهف ومصباحها في يدها. في لحظة اختفت.
مضى وقت طويل ولم تخرج. لم أتمكَّن من سماع أي صوت.
صحت في داخل الحفرة: كومي، كومي! هل أنت على ما يرام؟
لم تكن هناك إجابة. ومع غياب الصدى، ابتلع الظلام صوتي. بدأ الأمر يقلقني. لعلَّها احتُجزت داخل الحفرة وعجزت عن الحركة إلى الأمام أو إلى الخلف. أو لعلَّها أصيبت بتشنج هناك وغابت عن الوعي. إن حدث ذلك لن أكون قادرًا على مساعدتها. عبرت في رأسي سيناريوهات مريعة شتَّى وأحسست باختناق من الظلام المحيط بي.
إن اختفت أختي الصغيرة حقًّا في الحفرة ولم تعد قط إلى هذا العالم، كيف لي أن أشرح ذلك لوالديّ؟ هل أجري وأخبر خالي الذي ينتظر عند المدخل؟ أو أجلس متوترًا وأنتظر ظهورها؟ انحنيت ونظرت عبر الحفرة. لكنَّ ضوء مصباحي لم يصل بعيدًا. كانت حفرة صغيرة وكان الظلام مخيِّمًا.
صحت ثانية: كومي. ما من إجابة. صحت مرة أخرى بصوت أعلى: كومي. ما من إجابة أيضا. موجة من هواء بارد أصابتني بالقشعريرة في الصميم. قد أفقد أختي إلى الأبد. لعلَّها ابتُلِعت في حفرة ألِس، في عالم السلحفاة الساخرة، والقط تشيشر، وملكة القلوب. عالم لا مكان فيه للمنطق. ما كان ينبغي أن نأتي إلى هنا، فكَّرتُ.
لكنَّ أختي عادت أخيرًا. لم تخرج زاحفة من الخلف كالسابق، وإنما أخرجت رأسها أوَّلا. برز شعرها الأسود أوَّلا من الحفرة، ثم كتفاها وذراعاها، وأخيرًا حذاؤها الرياضي الوردي. وقفت أمامي دون أن تنبس بكلمة، تمطَّت وتنفست تنفسًا عميقًا ونفضت الرمل عن جينزها.
كان قلبي ما يزال يخفق بقوة. مددت يدي ورتَّبت شعرها الأشعث. لم أتمكَّن من ترتيبه جيّدًا في الضوء المعتم داخل الكهف، ولكن بدا أنَّ ثمة رمل وغبار وأوساخ أخرى عالقة بتِي شيرتها الأبيض. ألبستها السترة الواقية وناولتها الخوذة الصفراء.
قلت وأنا أحضنها: اعتقدت أنك لن تعودي.
هل قلقت؟
كثيرًا.
أمسكت بيدي بقوة. وقالت بصوت متحمِّس: لقد تمكَّنت من ضغط جسدي عبر الجزء الضيق، ثمّ عندما مضيت بعيدًا أصبح المكان منخفضًا فجأة، وبدا الأسفل هناك مثل حجرة صغيرة. حجرة دائرية مثل كرة. كان السقف دائريًّا والجدران دائرية والأرضية كذلك. وكان المكان صامتًا جدًّا جدًّا هناك وكأنك حتى لو بحثت في العالم كله لن تجد مكانًا بهذا الصمت. كنت وكأنني في أسفل محيط في حفرة تتعمَّق. أطفأت المصباح وأصبح المكان شديد السواد، ولكنني لم أشعر بالخوف أو الوحدة. تلك الحجرة مكان خاص مسموح لي فقط بدخوله. حجرة خاصة بي وحدي. ما من أحد آخر بوسعه الدخول إلى هناك. ولا أنت تستطيع.
لأنني كبير الحجم.
هزّت أختي الصغيرة رأسها. "صحيح. حجمك كبير لا يسمح لك بالدخول. المدهش حقًّا في ذلك المكان أنه أشد ظلمة من أي مكان يمكن أن يكون مظلمًا. شديد الظلمة إلى حدّ أنك حين تطفئ المصباح تشعر وكأنه بوسعك الامساك بالظلام بيديك. وكأنَّ جسدك يظهر ويختفي شيئًا فشيئًا. ولكنك لا تستطيع رؤية ذلك بسبب الظلام. إنك لا تعلم إن كان ما يزال لك جسد أم لا. ولكن حتى وإن اختفى جسدي تمامًا مثلا سأكون ما زلت هناك. مثل ابتسامة قط تشيشر التي تبقى بعد اختفاء جسده. غريب جدًّا، هاه؟ ولكنني حين كنت هناك لم أفكِّر أنَّ الأمر غريب مطلقًا. أردت أن أبقى هناك إلى الأبد، ولكنني فكرت أنك ستقلق فخرجت."
قلت: "لنخرج من هنا." بدت من شدة الحماسة أنها ستمضي في الكلام إلى الأبد، وكان عليّ أن أضع حدًّا لذلك. "لا أستطيع التنفس جيدًا هنا."
سألتني أختي قلقة: أأنت على ما يرام؟
أنا على ما يرام. أريد فقط أن أخرج.
تشابكت أيدينا وانطلقنا إلى المخرج.
"أتعرف؟" قالت أختي بصوت خفيض ونحن نمشي حتى لا يسمعها أحد آخر (مع أنه لم يكن أحد هناك). "إنّ ألِس توجد حقًّا. لم تكن القصة تأليفًا. كانت حقيقية. الأرنب البري، المجنون هَتَر، قط تشيشر، جنود أوراق اللعب... كلهم موجودون."
قلت: لعلهم كذلك.     
خرجنا من كهف الريح إلى العالم الحقيقي المشرق. كانت هناك طبقة رقيقة من الغيوم في السماء في ذلك الأصيل، ولكنني أتذكر كم كان سطوع الشمس مريعًا. كان صرير الزيزان صاخبًا مثل عاصفة عنيفة تغمر كل شيء. كان خالي يجلس على مقعد قريبا من المدخل مستغرقًا في القراءة. عندما رآنا ابتسم ووقف.
بعد عامين ماتت أختي. ووُضِعت في تابوت صغير وأُحرِقت. كنت في الخامسة عشرة وكانت في الثانية عشرة. بينما كانت تُحرق خرجت وانفصلت عن باقي أفراد عائلتي، جلست على مقعد في فناء المحرقة وتذكرت ما حدث في كهف الريح ذاك: ثقل الوقت وأنا أنتظر أختي الصغيرة تخرج، كثافة الظلام المحيط بي، البرودة الشديدة التي شعرت بها. شعرها الأسود وهو يبرز من الحفرة، ثم كتفاها. كل التراب والغبار العالق بتِي شيرتها الأبيض.
في ذلك الحين، داهمتني فكرة: أنه حتى قبل أن يعلن الطبيب في المشفى وفاتها رسميًّا بعد عامين لاحقًا، لعلَّ حياتها كانت قد سُلبت منها حين كانت في أعماق ذلك الكهف. اقتنعت في الحقيقة بذلك. لقد فُقِدت في تلك الحفرة، وغادرت العالم، ولكنني كنت أعتقد خطأً أنها كانت ما تزال على قيد الحياة، وأخذتها معي في القطار وأعدتها إلى طوكيو. أمسكتُ بيدها بقوة. وعشنا أخًا وأختًا عامين آخرين. بيْد أنَّ ذلك لم يكن أكثر من مهلة خاطفة. بعد عامين زحف الموت خارجًا من ذلك الكوخ ليقبض روح أختي. كأنما قد آنَ أوانُها، وكان لزامًا علينا أن ندفع ثمن ما أُعِرنا إياه، وجاء المالك ليستردَّ ما كان له.
بعد سنوات، أدركت كشخص راشد أنَّ ما أسرَّت به إليّ أختي الصغيرة بصوت خفيض في كهف الريح ذاك كان حقيقيًّا. ألِس موجودة حقًّا في العالم. الأرنب البري، المجنون هَتَر، قط تشيشر... جميعهم موجودون حقًّا.


ترجمها من اليابانية إلى الإنجليزية فيليب غابرييل
ترجمتها عن الإنجليزية زوينة آل تويّه