الاثنين، 10 يونيو 2019

لهذا كتبتُ "ورق الحائط الأصفر"

لهذا كتبتُ "ورق الحائط الأصفر"

للكاتبة الأمريكية شارلوت بيركِنز غِلمَن

سألني هذا السؤال قُرَّاءٌ كُثْر. عندما نُشرت القصة أوَّل مرَّة في مجلة "نيو إنجلَند" في عام 1891، اعترض طبيبٌ من مدينة بوسطُن في صحيفة "ذي ترانسكريبت". قال أنَّ قصة كهذه ما كان ينبغي أن تُكتَب لأنها كافية لأن تدفع أيَّ شخص يقرؤها إلى الجنون.
كتب طبيب آخر، أعتقد أنه من كانسَس، يقول أنها أفضل وصف لبداية جنون يقرؤه في حياته، و– أستميحكِ عذرًا –هل مررتِ بذلك؟
قصة القصة هي هذه:
عانيت سنواتٍ عديدةً انهيارًا عصبيًّا حادًّا ومتواصلًا يميل للمَلَنْخُوليا[1] وأكثر من ذلك. وفي أثناء السنة الثالثة تقريبًا من هذه المعاناة ذهبتُ، بإيمان ورِع وإحساسٍ طفيفٍ بالأمل، إلى اختصاصي في الأمراض العصبية ذائع الصيت، وأفضل طبيب معروف في البلاد. ألزمني هذا الرجل الحكيم فراشي وطبَّق العلاج بالراحة الذي تستجيب فيه بنية الجسم السليمة فورًا، مختتمًا كلامه بأن لا شيء مقلق لدي، وأرسلني إلى البيت مع نصيحة مَهيبة بأن "أعيش حياة عائلية قدر الإمكان"، وأن "لا أستغرق أكثر من ساعتين في نشاط فكري في اليوم"، وأن "لا ألمس قلمَ حبر أو فرشاةً أو قلمَ رصاص ثانيةً ما دمت على قيد الحياة." كان هذا في عام 1887.
ذهبت إلى البيت وأذعنتُ لهذه التوجيهات زُهاء ثلاثة أشهر كنتُ فيها قاب قوسين أو أدنى من حدود اضطراب عقلي مطلق.
بعدها، مستعينةً بما تبقَّى من عقل وبمساعدة صديق ذكي، ضربت بنصيحة الاختصاصي ذائع الصيت عرض الحائط وانصرفت إلى العمل مرَّةً أخرى، العمل، الحياة الطبيعية لكل كائن بشري، العمل، حيث المتعة والنمو والخدمة، والذي من دونه يصبح المرء عالةً وطفيليًّا. وفي النهاية استعدت قدرًا من طاقتي.
ولأنَّ هذا الخلاص الصغير جعلني أبتهج على نحو طبيعي كتبتُ "ورق الحائط الأصفر" بزخارفها وإضافاتها لأحقِّق الهدف (لم تحدث لي هلوسات أو اعتراضات على زخارفي الجدارية قطّ)، وأرسلت نسخة إلى الطبيب الذي كاد يدفعني إلى الجنون. ولم يردّ على الرسالة قطُّ.
نال الكتاب الصغير تقدير أطباء الأمراض العقلية ولاقى استحسانًا كنوعٍ جيِّد من أنواع الأدب. لقد أنقذت هذه القصة على حدّ علمي امرأةً من مصير مشابه ومروِّع حتى إن عائلتها سمحت لها بممارسة أنشطتها العادية واستعادت عافيتها.
بيد أنَّ أفضل النتائج هي هذه. بعد سنوات عديدة أُخبرت بأنَّ الاختصاصي العظيم قد أسرَّ إلى أصدقاء له بأنه عدَّل طريقته في علاج مرض النُّوراسثينيا[2] منذ قراءته "ورق الحائط الأصفر".
لم تهدف القصة إلى دفع الناس إلى الجنون، وإنما إلى إنقاذهم من دفعهم إلى الجنون، وقد نجحتْ في ذلك.





[1]أو السوداء، حالة عقلية تتّسم بهمودٍ أو اكتئاب شديد، وبالشعور بالعجز والتفاهة. (المورد الأكبر).
[2] النَّهَك العصبي. (المورد الأكبر).

ورق الحائط الأصفر

ورق الحائط الأصفر

للكاتبة الأمريكية شارلوت بيركِنز غِلمَن Charlotte Perkins Gilman
(1860-1935)



يَندُر كثيرًا أن يتمكَّن مجرّدُ أناسٍ عاديين مثلي وجون من تأمين بيتٍ ريفيٍّ يعود لأحدِ الأسلاف، لقضاء الصيف.
قصرٌ من زمن الاستعمار، عقارٌ موروث، سأقول إنه بيتٌ مسكونٌ بالأرواح، وأبلغ قمّة السعادة الرُّومنسية، ولكنّ ذلك يعني أن نسأل القَدَر الكثير!
ومع ذلك، سأعلن بفخر أنَّ ثمَّة شيئًا غريبًا فيه.
وإلَّا لِمَ يُؤجَّر بثمنٍ رخيصٍ جدًّا هكذا؟ ولِمَ بقي من دون إيجار مدةً طويلة؟
جون يسخر منِّي قطعًا، لكنَّ المرء يتوقَّع ذلك في الزواج.
جون شخصٌ عملي إلى أقصى حدّ. يضيق ذرْعًا بالإيمان، وبالرُّعب الشديد من الخرافات، ويسخر علنًا من أي حديث عن الأشياء التي لا يمكن الإحساس بها ورؤيتها ووضعها على هيئة أرقام.
جون طبيب، ولعلَّ ذلك –لن أقول ذلك لمخلوق حيّ قطعًا، ولكنّ هذه ورقة ميتة وتمنح عقلي راحة كبيرة- لعلَّه أحد الأسباب التي لا تجعلني أتماثل للشفاء سريعًا.
ألا ترون أنه لا يصدِّق أنني مريضة!
وماذا بوسع الواحدة أن تفعل؟
إذا كان طبيبٌ ذو مكانة مرموقة، وزوجُها، يُطمئِن الأصدقاء والأقارب أنها لا تعاني في الواقع إلا اكتئابًا عصبيًّا مؤقتًا، ميلًا هستيريًّا طفيفًا، فماذابوسع الواحدة أن تفعل؟
أخي طبيب أيضًا، وذو مكانة مرموقة كذلك، ويقول الشيء ذاته.
ولذا أتناول الفوسفات أو الفوسفيت، أيًّا كان ذلك، والمنشطات، وأخرج في رحلات، وأستنشق الهواء، وأمارس التمارين، وأُمنَع منعًا باتًّا من "العمل" حتى أتعافى ثانيةً.
شخصيًّا، لا أتفق مع أفكارهما.
شخصيًّا، أعتقد أن العمل الملائم، مع الإثارة والتغيير، سيساعدني على التحسّن.
ولكن ماذا بوسع الواحدة أن تفعل؟
كتبتُ بعض الوقت رغمًا عنهما، ولكن يرهقني كثيرًا أن أكون خبيثة جدًّا بشأن ذلك، وإلَّا لقيت معارضة كبيرة.
أتخيّل أحيانًا أنني لو واجهت معارضةً أقل وحصلت على رفقة وتحفيز أكبر... بيْد أنَّ جون يقول أنَّ أسوأ ما أفعله هو التفكير في وضعي، وأعترف أنَّ ذلك كثيرًا ما يجعلني أشعر بالاستياء.
لذلك سأترك ذلك وسأتحدَّث عن البيت.
إنه أجملُ الأماكن! منعزل تمامًا وقائمٌ بعيدًا عن الطريق، ويبعد ثلاثة أميال عن القرية. يجعلني أفكِّر في الأماكن الإنكليزية التي نقرأ عنها، لأنَّ هناك أسوجة وجدرانًا وبوابات تُقفل، والكثير من البيوت الصغيرة المنفصلة للبُستانيين وغيرهم.
ثمّة حديقة فاتنة! لم أرَ حديقة مثلها من قبل، كبيرة وظَليلة، تزخر بمعابر تحدُّها أسْوِجة مربعة الشكل، وتصطف فيها أشجار سامقة مُغطَّاة بالعنب وتحتها مقاعد.
هناك بيوت زجاجية أيضًا، لكنها مكسورة كلّها الآن.
أحسب أنه كانت هناك مشكلة قانونية، شيء يتعلّق بالورثة وشركائهم. على أيَّة حال، بقي البيت خاليًا سنواتٍ.
أخشى أن ذلك يفسد عليّ أَخْيِلتي الشبحية، ولكنني لا أبالي. ثمَّة شيء غريب في هذا المنزل، أستطيع الإحساس به.
حتى إنني قلت ذلك لجون ذات أمسية مقمرة، ولكنه قال أنَّ ما أحسست به كان تيّارًا هوائيًّا، وأغلق النافذة.
أغضب أحيانًا غضبًا غير معقول من جون. أنا متيقِّنة من أنني لم أكن حسّاسة هكذا من قبل. أخالُ أنَّ ذلك بسبب حالتي العصبية هذه.
بيْد أنَّ جون يقول أنني أشعر بذلك لأنني أُهمل التحكُّم الجيِّد في نفسي، ولذلك أتجشَّم عناء التحكُّم في نفسي أمامه على الأقل، وهذا يجعلني متعَبةً جدًّا.
لا أحبّ غرفتنا على الإطلاق. كنت أريد غرفة في الطابق السفلي مفتوحةً على الشُّرفة، ونافذتها كلُّها مزيَّنة بالورد، وعليها ستائر قطنية جميلة، مزهرة وعتيقة الطراز! لكنَّ جون لا يكترث لسماع ذلك.
قال إنَّ هناك نافذة واحدة فقط في الغرفة السفليَّة التي لا تتسع لسريرين، ولا توجد غرفة أخرى قريبة إذا ما أراد أخذ أخرى.
إنه حذِرٌ جدًّا ومحبٌّ جدًّا، ولا يكاد يسمح لي بالحركة من دون توجيه خاص.
هناك وصفة طبية مقرَّرة لي في كل ساعة في اليوم. إنه يتولى رعايتي الكاملة، ولذلك أشعر بأنني جاحدة على نحوٍ مُخزٍ إن لم أُقدِّر ما يفعله.
قال إننا أتينا إلى هنالأجلي فقط، لأنعم بالرَّاحة التامة والهواء النقي. قال: "تعتمد ممارستك التمارين الرياضية على قوَّتك يا عزيزتي، وغذاؤك على شهيَّتك بعض الشيء، ولكنك تستطيعين استنشاق الهواء طوال الوقت." وهكذا أخذنا غرفة حضانة الأطفال في الطابق العلوي للمنزل.
إنها غرفة كبيرة ومُهوَّاة، وكذلك الطابق بأكمله تقريبًا، فالنوافذ في كل مكان، ويدخل الهواء ونور الشمس بِوفرة. أستطيع القول بأنها كانت حضانة أطفال في البداية، ثم غرفة لعب وصالة رياضية، لأنَّ النوافذ محكمة بالقضبان لأجل الأطفال الصغار، وهناك حلقات وأشياء أخرى على الجدران.
بدا الطلاء وورق الحائط وكأنهما مُستخدمان في مدرسة صبيان. إنه ممزَّق –الورق- في مساحات كبيرة فوق رأس سريري إلى أعلى مكان يمكنني بلوغه، وفي مكان كبير في الجانب الآخر في الجزء السفلي من الغرفة. لم أرَ في حياتي ورق حائطٍ سيّئًا كهذا قطّ.
إنه يحوي أحد تلك النقوش المتموِّجة والمتمدِّدة التي توحي باقتراف مختلف الخطايا الفنية.
إنه نقشٌ باهت بقدر كافٍ لرَبْك العين عندما تتعقّبه، واضحٌ بقدر كافٍ لإغاظة المرء باستمرار وإثارته لتفحُّصه، وحينما تتعقّب أنت المنحنيات الغامضة العرجاء مسافةً قصيرةً فإنها تنتحر فجأة، لأنها تغوص في زوايا شنيعة وتبيد نفسها في تناقضات لم يُسمَع بها.
اللون منفِّر، مقزِّز تقريبًا، لون أصفر دخاني وغير نظيف، وباهت على نحو غريب بفعل التحوُّل البطيء لضوء الشمس. إنه لون برتقالي كئيب ولكنه متوهج في بعض الأماكن، وكبريتي شاحب في أماكن أخرى.
لا عجب أن يكرهه الأطفال! سأكرهه أنا نفسي إن عشت طويلًا في هذه الغرفة.
ها هو جون قادم، وعليّ أن أُبعد الورقة، فهو يكره أن يراني أكتب كلمة واحدة.
******
إنَّنا هنا منذ أسبوعين، ولم أشعر بمثل هذه الرغبة في الكتابة من قبل منذ ذلك اليوم الأول.
أجلس قرب النافذة الآن، في الطابق العلوي في غرفة الحضانة القبيحة هذه، ولا شيء يمنعني من الكتابة كما يحلو لي سوى افتقاري إلى القوة.
يكون جون في الخارج طوال اليوم، وحتى في بعض الليالي عندما تكون هناك حالات مرضية حرجة.
أنا مسرورة لأن حالتي ليست حرجة!
بيْد أنَّ هذه الاضطرابات العصبية مثيرة للاكتئاب على نحو مروِّع.
لا يعرف جون كم أعاني في الحقيقة. يعرف أنه ما من سبب يجعلني أعاني، وهذا يُرضيه.
إنه قطعًا محضُ اضطراب. إنه يثقل عليّ فلا أستطيع القيام بمهامي بأي طريقة!
أردت أن أكون عونًا كبيرًا لجون، راحةً وطمأنينةً حقيقيتين، وها أنا ذي عبء ثقيل!
لن يصدِّق أحد أي مجهود أبذل للقيام بشيء قليل، لارتداء ملابسي والتسلية وترتيب الأشياء.
من حسن الحظ أنَّ ماري لطيفة جدًّا مع الطفل. كم هو طفل حبيب!
ومع ذلك لا أستطيع أن أكون معه، وذلك يجعلني متوترة للغاية.
أحسب أنَّ جون لم يتوتَّر في حياته قطُّ. إنه يسخر مني عندما أحدِّثه عن ورق الحائط هذا.
في البداية أراد أن يغيِّر ورق الحائط في الغرفة، لكنه قال في ما بعد أنني أسمح لهذا الورق بالسيطرة عليّ، وأنه لا شيء أكثر سوءًا لمريض عصبي من الاستسلام لخيالات كهذه.
قال إنَّه بعد تغيير ورق الحائط سيأتي دور هيكل السرير، ثم النوافذ المحكمة بالقضبان، ثم تلك البوابة في أعلى السلالم، وهكذا.
قال: "تعلمين أنَّ المكان يناسبك، وفي الواقع يا عزيزتي لا أكترث بتجديد البيت لأجل إيجار ثلاثة أشهر فقط."
قلت: "إذن دعنا ننتقل إلى الطابق السفلي، هناك غرف جميلة جدًّا."
ثم أخذني بين ذراعيه ودعاني بإوزَّته الصغيرة المباركة، وقال أنه سيذهب إلى القبو في الأسفل، إن شئتُ، وسيَطليه باللون الأبيض أيضًا.
بيْد أنَّه محقٌّ تمامًا بشأن السرير والنوافذ والأشياء.
إنها غرفة مُهوَّاة ومريحة كما يتمناها المرء، وقطعًا لن أكون حمقاء وأزعجه من أجل نزوة عابرة وحسب.
أنا مولعة جدًّا بالغرفة الكبيرة حقًّا، بكل شيء فيها ما عدا ورق الحائط البشع.
من إحدى النافذتين أستطيع أن أرى الحديقة، وتلك الأشجار الغامضة العميقة الظلال، والأزهار المشاغبة العتيقة الطراز، والآجام والأشجار الكثيرة العُقد.
ومن النافذة الأخرى أحظى بمنظر بديع للخليج ولرصيف خاص يعود للمنزل. هنالك معبر مظلّل جميل يمتد من البيت. طالما تخيَّلت أناسًا يمشون على هذه المعابر الكثيرة وتحت الأشجار، لكنَّ جون حذّرني من الاستسلام نهائيّا للوهم. قال أنه بسبب طاقة الخيال التي أملكها وعادتي في تأليف القصص، قطعًا سيقودني ضعفٌ عصبيٌّ كالذي أعانيه إلى ضروبٍ شتّى من الأوهام المثيرة، وأنه عليّ أن أستخدم إرادتي وحسي السليم لكبح هذا الميل. وهكذا أحاول.
أفكِّر أحيانًا لو أنني أستطيع الكتابة قليلا لَتخفَّفتُ من ضغط الأفكار واسترحْت.
لكنني أجدني متعبة جدًّا كلما حاولت.
من المحبط جدًّا أن لا أحظى بنصحٍ أو رفقة بشأن عملي. عندما أكون على ما يرام يقول جون أنه سيدعو ابن العم هنري وجوليا لزيارة طويلة، بيْد أنه سرعان ما يقول أنه يُفضِّل أن يضع ألعابًا نارية داخل غطاء مخدتي على أن يسمح لي باستقبال هؤلاء الناس المثيرين للأعصاب.
أتمنى أن أتعافى سريعًا.
لكن يجب أن لا أفكّر في ذلك. ورق الحائط هذا ينظر إليّ وكأنه يعرف أي تأثير خبيث له!
هناك بقعة متكررة يتدلَّى منهاالنقش مثل عنق مكسور، وثمّة عينان منتفختان تحدّقان إليك بالمقلوب.
أغضب غضبًا شديدًا من وقاحة هذه النقوش واستمرارها. تزحف جيئةً وذهابًا وإلى الجوانب، وتلك العينان السخيفتان اللتان لا تَطْرِفان أجدهما في كل مكان. ثمّة مكان واحد لا يتطابق فيه نَفَسَان، وتتحرّك العينان أعلى الخط وأسفله، إحداهما أعلى قليلا من الأخرى.
لم أرَ قطَّ كلَّ هذا الكمّ من التعبيرات في شيء عديم الحياة كهذا، وجميعنا يرى كم من التعبيرات يحمل! عندما كنت طفلة اعتدت أن أستلقي مستيقظة لأجد من التسلية والرعب في الجدران الفارغة وقطع الأثاث البسيطة أكثر مما يجده معظم الأطفال في متجر ألعاب.
أتذكر تلك الغمزة اللطيفة لمقابض منضدتنا الكبيرة القديمة، وكان هناك كرسي طالما بدا لي مثل صديق وفيّ.
كنت أشعر أنه إذا بدا أيّ من الأشياء الأخرى عنيفًا جدًّا، فبمستطاعي دائمًا القفز فوق ذلك الكرسي لأكون في أمان.
الأثاث في هذه الغرفة متنافر على نحو سيئ لأنه كان علينا أن نجلبه كلّه من الطابق السفلي. أحسب أنه عندما كانت تُستخدم هذه الغرفة كغرفة ألعاب كان عليهم إخراج جميع أمتعة غرفة الحضانة، ولا عجب! لم أرَ خرابًا أكثر من هذا الخراب الذي أحدثه الأطفال هنا.
ورق الحائط كما قلت من قبل ممزّق في رُقَع ويبدو أنها كانت ملتصقة بعناد. لا بدّ أنها كانت على قدر كبير من المثابرة والكراهية.
ثم إن الأرضية مخدوشة ومقوّرة ومتشقّقة، والجصّ نفسه محفور هنا وهناك، وهذا السرير الكبير الثقيل الذي هو كلّ ما وجدناه في الغرفة يبدو وكأنه خاض حروبًا.
لكن ذلك لا يزعجني البتّة. إنه ورق الحائط وحسب.
ها هي أخت جون قادمة. يالها من فتاة لطيفة! وكم تعتني بي! يجب ان لا أسمح لها أن تراني أكتب.
إنها مدبرة منزل مثالية ومتحمسة، ولا تتطلَّع إلى مهنة أفضل من ذلك. أعتقد حقّا أنها تظن أن الكتابة تجعلني مريضة!
بيْد أنني أستطيع الكتابة عندما تخرج، وأراها من هاتين النافذتين وهي تبتعد.
إحداهما تطلّ على الطريق، طريق متعرِّج جميل ومظلَّل. والأخرى تطلّ على البلدة، بلدة جميلة أيضًا تزخر بأشجار الدَّردار الضخمة والمروج المخملية.
لورق الحائط هذا نقش فرعي ذو ظل مختلف، نقش مزعج على نحو خاص لأنك تستطيع أن تراه فقط في ضوء معين وليس بوضوح.
ولكن في الأماكن التي لا يبهت فيها الضوء وحيث تطلّ الشمس أستطيع أن أرى شكلًا غريبًا ومثيرًا ولا هيئة له، يبدو وأنه يتوارى خلف ذلك التصميم الأمامي السخيف والبارز.
ها هي أخته تصعد السلالم!
***
حسنًا، ولّى الرابع من تمُّوز! ذهب الناس جميعهم، وأنا مرهقة. فكَّر جون أنه سيناسبني أن أحظى ببعض الرفقة، ولذلك دعونا أمّي ونيلي والأطفال للبقاء معنا أسبوعًا.
قطعًا لم أفعل شيئًا. جِنِي تعتني بكل شي.
ومع ذلك أنا متعبة.
قال جون أنني إن لم أتماثل للشفاء سريعًا فسيأخذني إلى الطبيب وِير مِتشل في الخريف.
بيْد أنني لا أودّ الذهاب إلى هناك أبدًا. أعرف صديقة كان يعالجها وأخبرتني أنه مثل جون وأخي تمامًا، بل وأسوأ!
إضافةً إلى ذلك، ستكون مهمة شاقة السفر إلى هناك.
لا أشعر بأنَّ الأمر يستحق أن أجرّب أي شيء،وقد صرت نكِدةً وشكَّاءةً على نحو مروّع.
أبكي لأجل لا شيء، وأبكي معظم الوقت.
وقطعًا لا أبكي عندما يكون جون هنا أو أي شخص آخر، وإنما عندما أكون بمفردي.
وأنا الآن بمفردي بقدرٍ كافٍ. يبقى جون كثيرًا في البلدة بسبب بعض الحالات الحرجة، وجِنِي لطيفة وتتركني بمفردي عندما أريد ذلك.
لذا أتمشى في الحديقة قليلا أو على ذلك الطريق الجميل، وأجلس في الشرفة تحت الورد، وأستلقي هنا في الأعلى بقدر كافٍ.
لقد أصبحت مغرمة حقّا بالغرفة بالرَّغم من ورق الحائط. ربما بسبب ورق الحائط.
إنه يسكن عقلي!
أستلقي هنا على السرير الكبير الثابت – أظن أنه مثبّت بمسامير- وأتتبّع ذلك النقش طوال الوقت. إنه جيّد كتمارين رياضية أؤكد لكم. لنقل أنني سأبدأ من الأسفل، عند الزاوية هناك حيث لم تُلمَس من قبل، وأصرّ ألف مرة أنني سأتعقّب ذلك النقش التافه لأصل إلى نهاية ما.
أعرف القليل عن مبادئ التصميم، وأعرف أن هذا النقش لا ينتظم وفق أي قانون من قوانين الإشعاع أو التعاقب أو التكرار أو التماثل أو أي شيء آخر سمعت به.
إنه يتكرَّر قطعًا عند خطوط العرض ولكن ليس خلاف ذلك.
عند النظر إليه من زاوية ما، يبدو كلُّ عرض مستقلا بذاته، تتهادى المنحنيات المنتفخة والزخارف –ضربٌ من "فنّ رومانيسكي مغشوش" مع هذيان ارتعاشي -صعودًا وهبوطًا في أعمدة منفصلة حمقاء.
ولكن، من جهة أخرى، يتصل بعض هذه المنحنيات ببعضها الآخر قُطريًّا، وتتحرك الخطوط العريضة الممتدة في موجات مائلة كبيرة من الرعب البصري، مثل أعشاب بحرية مندفعة في مطاردة كاملة.
يتحرّك النقش كلّه أفقيًّا أيضًا، هكذا يبدو على الأقل، وأنهك نفسي محاولةً تمييز النظام الذي يتبعه في تحرّكه في ذلك الاتجاه.
استُخدِم عرض أفقي للتزيين، وذلك يزيد الارتباك على نحو رائع.
ثمّة جزء في الغرفة لم يُمسّ تقريبًا، وعندما تخبو الأضواء وتضيء الشمس المنخفضة ذلك الجزء مباشرةً–وبرغم كل شيء أكاد أستطيع تخيّل أشعتها -تبدو الزخارف البشعة اللامتناهية وهي تتشكّل حول مركز مشترك ثم تندفع في قفز متهور ذي انحرافات متساوية.
يجعلني ذلك أتعب وأنا أتعقَّب النقش. أعتقد أنني سأغفو قليلا.
***
لا أعرف لم عليّ أن أكتب هذا.
لا أريد أن أفعل ذلك.
لا أشعر أني قادرة.
وأعرف أن جون سيعدّ ذلك سُخفًا. لكن يجب أن أقول ما أحسّ به وأفكِّر فيه بطريقة ما، وذلك يمنحني الراحة!
بيْد أنَّ الجهد يكون أكبر من الراحة.
نصف الوقت وأنا كسولٌ إلى حدّ بغيض، وأستلقي كثيرًا.
يقول جون أنه يجب أن لا أفقد قوتي، ويجعلني أتناول زيت كبد سمك القُدّ والكثير من المقويات والأشياء، فضلًا عن الجعة والنبيذ واللحم النادر.
عزيزي جون! يحبني حبًّا جمًّا، ويكره أن يراني مريضة. حاولت أن أتحدَّث إليه حديثا حقيقيًّا وصادقًا وعقلانيًّا ذلك اليوم وأخبره كم أتمنى لو يسمح لي بالذهاب لزيارة ابن العم هنري وجوليا.
لكنه قال أنني لا أستطيع الذهاب، ولن أتمكَّن من تحمُّل البقاء هناك حالما أصل، ولم أستطع تقديم حجة مقنعة لأنني بكيت قبل أن أُنهي كلامي.
سيكون عليّ أن أبذل جهدًا هائلًا كي أفكر تفكيرًا سليمًا. أخال أنه بسبب هذا الضعف العصبي.
وأخذني جون العزيز بين ذراعيه وحملني إلى الطابق العلوي وأرقدني على السرير وجلس بجانبي وقرأ لي حتى أُنهِك رأسي.
قال لي أنني حبيبته وراحته وكلُّ ما يملك، وأنه عليّ أن أهتم بنفسي لأجله وأن أكون بخير.
قال أنه لن يساعدني أحد إلا نفسي في الخروج من هذه الحال، ويجب عليّ أن أستخدم إرادتي وأن أتحكَّم في نفسي ولا أسمح للأوهام السخيفة بالتمكُّن مني.
ثمَّة عزاء واحد، الطفل بخير وسعيد وليس عليه أن يشغل غرفة الحضانة هذه ذات ورق الحائط البشع.
لو لم نستخدمها لكان استخدمها ذلك الطفل المبارَك! ياله من حظ سعيد! لن أترك طفلي، المخلوق الصغير الحسّاس ليعيش في غرفة كهذه ولو أُعطيتُ ثروة العالم كلَّه.
لم أفكّر في ذلك من قبل، ولكن من حسن الحظ أنَّ جون وضعني هنا بعد كلّ شيء، أستطيع التحمُّل بسهولة أكبر مما يمكنُ لطفلٍ، كما ترون.
قطعًا لم أعد أذكر لهم شيئًا عن النقش، أنا عاقلة جدًّا، لكنني مع ذلك واصلت مراقبته.
ثمّة أشياء في ورق الحائط ذاك لا أحد يعرفها سواي، ولن يعرفها أحد أبدًا.
خلف ذلك النقش الخارجي تصبح الأشكال المعتمة أكثر جلاءً كل يوم.
إنه الشكل ذاته دائمًا، غير أنه متعدِّد جدًّا.
إنه مثل امرأة تنحني وتزحف خلف ذلك النقش. لا أحبُّه مطلقًا. أتعجَّب –أبدأ بالتفكير- وأتمنى لو أن جون يبعدني عن هنا!
***
يشقُّ عليَّ التحدُّث إلى جون عن حالي لأنه عاقلٌ جدًّا ولأنه يحبّني كثيرًا.
لكنني حاولت الليلة الماضية.
كانت ليلة مقمرة. القمر يضيء جميع الأنحاء تمامًا كما تفعل الشمس.
أكره أن أنظر إلى الشكل أحيانًا، إنه يزحف ببطء شديد، ودائما ما يقترب من هذه النافذة أو تلك.
كان جون نائمًا ولم أشأ أن أوقظه، لذلك بقيت ساكنة ورحت أرقب ضوء القمر على ذلك الورق المتموِّج حتى شعرت بخَدَر.
بدا شكل المرأة الباهت في الخلف وكأنه يهزُّ النقش، وكأنها تريد أن تخرج.
نهضت بهدوء وذهبت لأتحسَّس وأرى إن كان الورق قد تحرَّك، وعندما عدت كان جون مستيقظًا.
قال: "ما الأمر أيتها الفتاة الصغيرة؟ لا تتمشي هكذا وإلا أُصبت بالبرد."
حسبتُ أنَّ الوقت مناسبٌ للحديث، لذلك أخبرته أنني لا أتعافى هنا في الحقيقة وأتمنى لو يأخذني بعيدًا عن هنا.
قال: "لماذا يا حبيبتي! سينتهي عقد إيجارنا بعد ثلاثة أسابيع ولا أرى سببًا للمغادرة قبل ذلك."
"لم تنته الإصلاحات في بيتنا ولا يمكنني مغادرة البلدة الآن. من دون شك، لو كان وضعك خطرًا لأمكنني الذهاب ولفعلت ذلك، ولكنك أفضل حالًا يا عزيزتي سواء لاحظتِ ذلك أو لم تلاحظيه. أنا طبيب يا عزيزتي وأعرف. إنك تستردين عافيتك وتستعيدين لونك، وأصبحت شهيّتك أفضل، أشعر حقًّا بالاطمئنان عليك."
قلت: "لم يزِد وزني قليلًا ولا كثيرًا، وقد تكون شهيتي جيدة في المساء عندما تكون أنت هنا، ولكنها تسوء في الصباح عندما تغادر!"
قال وهو يحضنني: "ليتبارك قلبها الصغير! ستكون مريضة كما يحلو لها! ولكن دعينا الآن نجعل من هذه الساعات المتألقة أفضل بالخلود إلى النوم ولنتحدَّث في الصباح!"
سألتُ عابسةً: "وألن تغادر؟"
"لماذا، كيف أجرؤ على ذلك يا عزيزتي؟ تبقّت ثلاثة أسابيع وحسب ثم سنخرج في رحلة قصيرة لطيفة عدة أيام في حين تتولّى جِنِي تجهيز البيت. أنت أفضل حالًا حقًّا يا عزيزتي."
"أفضل من الناحية الجسدية فقط..." بدأت وتوقفت بعد قليل لأنه انتصب جالسًا ونظر إليّ نظرة توبيخ صارمة حتى إنني لم أنبس بكلمة أخرى.
قال: "يا حبيبتي، أتوسَّل إليك، لأجلي ولأجل طفلنا ولأجلك أيضًا، أن لا تسمحي لتلك الفكرة أن تدخل عقلك لحظةً مطلقًا! ليس ثمَّة ما هو أشدّ خطورةً وأشدّ فتنةً لمزاج كمزاجك من أفكار كهذه. إنه وهم خادع وأحمق. ألا يمكنك أن تضعي ثقتك فيّ كطبيب عندما أقول لك ذلك؟"
وهكذا من غير ريب لم أقُل المزيد في هذا الموضوع وانصرفنا إلى النوم. ظنّ أنني نمت قبله، لكنني لم أنم، واستلقيت هناك ساعاتٍ محاولة تحديد إذا ما كان النقش الأمامي والنقش الخلفي قد تحرّكا حقّا معًا أو منفصلين.
***
في نقش كهذا، هناك افتقار إلى التسلسل في ضوء النهار، تحدّ للقانون، وهذا يسبّب توترًا مستمرًّا للعقل الطبيعي.
اللون بشع على نحوٍ كافٍ، لا يمكن الاعتماد عليه على نحوٍ كافٍ، ومغيظ على نحوٍ كافٍ، لكن النقش معذِّب.
تحسب أنك تمكَّنت منه، ولكنك ما أن تكون في طريقك لتعقُّبه ينقلب رأسًا على عقب إلى الوراء، وهاك، يصفعك في الوجه، يصرعك أرضًا ويدوسك. إنه أشبه بحلم سيئ.
النقش الخارجي أرابسك مزخرفٌ يُذكِّر بالفطر. هل يمكنكم تخيّل مجموعة متصلة من فطر الغاريقون، سلسلة لا متناهية من فطر الغاريقون، تتبرعم وتنمو بسرعة في تلافيف لا نهاية لها؟ هكذا يبدو النقش.
هكذا، أحيانًا!
ثمَّة شيء غريب جليّ في هذا الورق، شيء لا يبدو أنَّ أحدًا غيري يلاحظه، وهو أنه يتغيَّر بتغيُّر الضوء.
عندما ترسل الشمس أشعتها خلال النافذة الشرقية –دائمًا ما أترقّب ذلك الشعاع الأول الطويل والمستقيم – يتغيَّر النقش بسرعة كبيرة حتى إنني لا أكاد أصدِّق ذلك أبدًا.
لذلك السبب كنت أراقبه دائمًا.
ومع بزوغ ضوء القمر – يضيء القمر طوال الليل عندما يكون هناك قمر – لا أعود قادرة على تعرُّف ورق الحائط ذاته.
في الليل، تحت أي ضوء، ضوء الشفق، وضوء الشمعة، وضوء المصباح، وأسوأها ضوء القمر، يتحوّل النقش إلى قضبان! أقصد النقش الخارجي، وتصبح المرأة خلفه جليَّةً قدر الإمكان.
وقتًا طويلًا لم أدرك ما كان ذلك الشيء في الخلف، ذلك النقش الفرعي المعتم، لكنني متيقِّنة تمامًا الآن أنه امرأة.
في ضو النهار تكون خافتة، هادئة. أتخيَّل أن النقش هو ما يجعلها ساكنة جدًّا. إنه أمر محيِّر. يجعلني هادئة طوال اليوم.
أستلقي على السرير كثيرًا. يقول جون أنَّ ذلك جيد لي وعليّ أن أنام قدر استطاعتي.
لقد بدأ حقًّا عادة جعلي أستلقي ساعةً بعد كل وجبة.
إنني مقتنعة أنها عادة سيئة جدّا، لأنكم ترون أنني لا أنام.
وذلك يشجِّع على الخداع، لأنني لا أخبرهم أنني مستيقظة، لا!
الحقيقة أنني أصبحت أخاف جون بعض الشيء.
يبدو غريبًا في بعض الأحيان، وحتى جِنِي لها نظرة يتعذَّر تفسيرها.
يبدو لي أحيانًا، تمامًا مثل فرضية علمية، أن السبب قد يكون ورق الحائط!
لقد راقبت جون عندما لم يكن يلاحظ أنني أنظر إليه، وكنت أدخل إلى الغرفة فجأة بأكثر الأعذار براءةً، وقد فاجأته مرات عدة وهو ينظر إلى ورق الحائط! وكذلك جِنِي. باغتُّ جِنِي وهي تضع يدها عليه مرَّةً.
لم تعرف أنني كنت في الغرفة، ولمَّا سألتها بصوت هادئ، هادئ جدًّا، وبطريقة حذرة قدر الإمكان، ماذا كانت تفعل بورق الحائط – استدارت وكأنها فوجئت وهي تسرق، وبدت غاضبة جدًّا – سألتني لِمَ أخفتُها هكذا!
ثم قالت أنَّ هذا الورق لطَّخ كلَّ شيء لمسه، وأنها وجدت لطخات صفراء على جميع ملابسي وملابس جون، وأنها تتمنى أن نكون أكثر حذرًا!
هل يبدو ذلك بريئًا؟ لكنني أعرف أنها كانت تفحص ذلك النقش، وأنا عاقدة العزم على أن لا يكتشفه أحد سواي!
***
لقد أصبحت الحياة أكثر إثارةً مما كانت عليه. أترون، لدي الكثير لأتوقَّعه وأتطلَّع إليه وأرقبه. إنني أتغذى على نحو أفضل حقًّا، وأصبحت أكثر هدوءًا من السابق.
جون سعيد جدًّا وهو يراني أتعافى! ضحك قليلا ذلك اليوم وقال أنني أبدو متألّقة بالرَّغم من ورق الحائط.
أنهيت الحديث بضحكة. لا نيّة لدي لإخباره بأنني أتحسّن بفضل ورق الحائط، سيسخر مني. وقد يبعدني عن هنا.
لا أودّ أن أغادر الآن حتى أكتشف النقش. ثمَّة أسبوع آخر، وأعتقد أنه كافٍ.
***
أشعر أنني أفضل بكثير! لا أنام كثيرًا في الليل لأنني أستمتع أيَّما استمتاع بمراقبة التطورات، ولكنني أنام كثيرًا في النهار.
إنه مرهق ومحيِّر في النهار.
ثمَّة دائمًا براعم جديدة على الفطر وظلال جديدة من اللون الأصفر عليها. لا أستطيع مواصلة عدِّها، مع أنني حاولت ذلك بتفانٍ.
إنه أغرب لون أصفر في ورق الحائط ذاك! يجعلني أفكِّر في كل الأشياء الصفراء التي رأيتها، ليست أشياء جميلة مثل نبات الحَوْذان، ولكنها أشياء صفراء سيئة وقديمة وشنيعة.
ولكن ثمَّة شيء آخر في ذلك الورق، الرائحة! لاحظتها في اللحظة التي دخلنا فيها إلى الغرفة، ولكنها لم تكن سيئة بدخول كثير من الهواء والشمس. لقد مضى أسبوع من الضباب والمطر، وسواء أكانت النوافذ مفتوحة أم لا، فالرائحة هنا.
إنها تزحف في البيت كلِّه.
أجدها تحوم في غرفة الطعام، تتسلّل إلى الصالون، تختبئ في الردهة، تستلقي على السلالم منتظرة إياي.
تدخل إلى شعري.
حتى عندما أخرج للتنزُّه، عندما أدير رأسي على حين غرّة لأفاجئها، إذا بها هناك!
يالها من رائحة غريبة أيضًا! لقد قضيت ساعات وأنا أحاول تحليلها واكتشاف أية رائحة تشبه.
إنها ليست سيئة في البداية، وكانت لطيفة جدًّا، لكنها أكثر رائحة حادّة ودائمة عرفتُها.
إنها بشعة في هذا الطقس الرطب، أستيقظ في الليل وأجدها متدليّةً فوقي.
اعتادت أن تزعجني في البداية. فكَّرت بجد في حرق البيت للوصول إلى الرائحة.
لكنني اعتدتها الآن. الشيء الوحيد الذي يمكنني التفكير فيه هو أنها مثل لون ورق الحائط! رائحة صفراء.
ثمَّة علامة غريبة جدًّا على هذا الجدار، في الأسفل بالقرب من الطوق الخشبي المحيط بأسفل الجدار. خطٌّ يتحرَّك في أنحاء الغرفة. يتحرَّك خلف كل قطعة أثاث باستثناء السرير. يبدو طويلًا ومستقيمًا وحتى صقيلا، وكأنه فُرِك مرارًا وتكرارًا.
أتعجَّب كيف صُمِّم ومن صمَّمه ولأي غرض. يدور ويدور، يدور ويدور ويدور، إنه يصيبني بالدوار!
***
لقد اكتشفت شيئًا أخيرًا حقًّا.
بالمراقبة الطويلة في الليل عندما يتغيَّر النقش اكتشفت أخيرًا.
النقش الأمامي يتحرَّك، ولا عجب! فالمرأة في الخلف تهزّه!
أفكِّر أحيانًا أن هناك نساء كثيرات في الخلف، وأحيانًا واحدة فقط، وتحبو بشكل دائري بسرعة، وحبوها يهزّ الورق كلَّه.
ثم وفي البقع الفاتحة جدًّا تبقى ساكنة، وفي البقع الغامقة جدًّا تمسك القبضان وتهزّها بقسوة.
وتحاول التسلّق طوال الوقت. لكن لا أحد يستطيع التسلُّق عبر ذلك النقش، لأنه يهصر. أعتقد أنه لهذا السبب له رؤوس كثيرة.
تدخل الرؤوس ثم يهصرها النقش ويقلبها رأسًا على عقب ويجعل عيونها بيضاء! لو غُطِّيت هذه الرؤوس أو نُزِعت فلن يكون الأمر سيئًا.
***
أحسب أنَّ تلك المرأة تخرج في النهار!
وسأخبركم لماذا – سرًّا – فقد رأيتها!
أستطيع أن أراها وهي تخرج من كل نافذة من نافذتيّ!
إنها المرأة نفسها، أعرف، لأنها دائما تزحف، ومعظم النساء لا يزحفن في النهار.
أراها على ذلك الطريق الطويل المظلّل تزحف ذهابًا وإيابًا. أراها تحت عُرُش العنب الداكنة تزحف في أرجاء الحديقة.
أراها على ذلك الطريق الطويل تحت الأشجار تزحف، وعندما تقبل عربة تختبئ تحت كروم شجرة العُلَّيق.
لا ألومها مطلقًا. لا بد أنه أمرٌ مهين جدٌّا أن يُفاجَأ المرء وهو يزحف في النهار!
أنا أقفل الباب دائمًا عندما أزحف في النهار. لا أستطيع فعل ذلك في الليل لأنني أعرف أن جون سيرتاب فورًا.
وأصبح جون غريبًا جدًّا الآن ولا أودّ أن أثير غضبه. أتمنى أن يأخذ غرفة أخرى! وفوق ذلك، لا أريد لأحد أن يُخرج تلك المرأة في الليل سواي.
كثيرًا ما أتعجَّب إن كان بمقدوري رؤيتها وهي تخرج من النافذتين مرًّة واحدة.
ولكن عندما أستدير بأسرع ما يمكن، أستطيع رؤيتها فقط من نافذة واحدة في وقت واحد.
ومع أني أراها دائمًا، فقد تتمكَّن من الزحف سريعًا قبل أن أستدير!
كنت أراها في بعض الأحيان وهي في طريقها إلى البلدة المفتوحة، تزحف بسرعة مثل ظلّ سحابة في ريح عاصفة.
***
لو أمكن فقط إزالة ذلك النقش العلوي من النقش السفلي! أعني لوأنني أحاول إزالته شيئًا فشيئًا.
لقد وجدت شيئًا غريبًا آخر، لكنني لن أخبر أحدًا هذه المرة! لن يفيد أن نثق في الناس كثيرًا.
بقي يومان فقط لتمزيق هذا الورق، وأعتقد أنَّ جون بدأ يلاحظ. لا أحب تلك النظرة في عينيه.
وسمعته يسأل جِنِي الكثير من الأسئلة الدقيقة عني. لديها تقرير جيدٌ جدًّا لتقدّمه.
قالت أنني أنام كثيرًا في النهار.
يعرف جون أنني لا أنام جيّدا في الليل لأنني أكون هادئة جدًّا!
سألني أسئلة شتَّى، وتظاهر بأنه محبٌّ ولطيف جدًّا.
وكأنني لا أفهمه!
ومع ذلك لا أتعجَّب من مسلكه على هذا النحو وقد قضى ثلاثة أشهر وهو ينام تحت ورق الحائط هذا.
يشغلني أمر هذا الورق ولدي إحساس أكيد أنَّ جون وجِنِي متأثران به سرًّا.
***
مرحى! هذا هو اليوم الأخير، لكنه كافٍ. سيقضي جون الليلة في البلدة ولن يخرج قبل المساء.
أرادت جِنِي أن تبيت عندي، يالها من ماكرة! لكنني أخبرتها أنني سأكون أفضل حالًا قطعًا لو قضيت ليلةً بمفردي.
كانت تلك فكرة ذكية لأنني في الحقيقة لم أكن وحدي مطلقًا! حالما بزغ ضوء القمر وبدأت تلك المسكينة تزحف وتهزّ النقش، نهضتُ وركضتُ لمساعدتها.
أسحب وتهزّ، وأهزّ وتسحب، وقبل الصباح كنَّا قد مزّقنا ياردات من ذلك الورق.
كان ارتفاع الجزء الممزَّق يصل إلى رأسي ويغطي نصف الغرفة.
وعندما أشرقت الشمس وبدأ ذلك النقش الشنيع يسخر مني، أعلنت أنني سأقضي عليه اليوم!
سنغادر في الغد، وهم ينقلون جميع الأثاث إلى الطابق السفلي مرة أخرى ليعيدوا الأشياء كما كانت من قبل.
نظرت جِنِي بدَهَش إلى الجدار، لكنني أخبرتها بمرح أنني فعلت ذلك نكايةً بذلك الشيء الشّرّير.
ضحكت وقالت أنها لن تنزعج إن نزعت الورق بنفسها لكن يجب أن لا أرهق نفسي.
كيف كشفت عن حقيقتها في تلك اللحظة! لكن أنا هنا وما من شخص غيري سيلمس هذا الورق، ليس وأنا على قيد الحياة!
حاولت أن تخرجني من الغرفة، كان ذلك جليًّا جدًّا! لكنني قلت أن الغرفة أصبحت هادئة وفارغة ونظيفة تمامًا وأعتقد أنني سأستلقي مرة أخرى وأنام قدر ما أشاء، وعليها أن لا توقظني حتى للعشاء، وسأناديها عندما أستيقظ.
والآن وقد ذهبت، وذهب الخدم، والأشياء ذهبت، لم يتبقّ شيء سوى ذلك السرير الكبير المسمَّر مع فراش القِّنّب الذي وجدناه عليه.
سننام في الطابق السفلي الليلة وستقلُّنا السفينة للعودة إلى البيت في الغد.
إنني أستمتع بالغرفة كثيرًا الآن وقد أصبحت خاليةً ثانيةً.
كيف مزَّق هؤلاء الأطفال الورق من هنا!
هيكل السرير متآكل تمامًا!
ولكن يجب أن أعود للعمل.
قفلت الباب وألقيت بالمفتاح إلى الأسفل في الممر الأمامي.
لا أريد أن أخرج ولا أريد أن يأتي أحد إلى هنا حتى يعود جون.
أريد أن أُذهِلَه.
عندي حبل هنا في الأعلى، حتى جِنِي لم تلحظه. إن ظهرت تلك المرأة وحاولت الخروج أستطيع تقييدها!
بيْد أنني نسيت أنني لا أستطيع الوصول بعيدًا من دون شيء أقف عليه!
هذا السرير لا يتحرك!
حاولت رفعه ودفعه حتى صرت أعرِج، ثم تملّكني الغضب حتى قضمت قطعة صغيرة في إحدى زواياه، لكنها أوجعت أسناني.
ثم مزَّقت كلَّ ما تمكَّنت من الوصول إليه من الورق وأنا واقفة على الأرض. إنه ملتصق على نحو فظيع والنقش يجد متعة في ذلك! كل هذه الرؤوس المهصورة والعيون المنتفخة والفطر المتهادي، كلها تزعق هازئة!
إن غضبي يزيد إلى درجة أنني على وشك الإتيان بفعل يائس. سيكون تمرينًا مثيرًا للإعجاب أن أقفز من النافذة، لكن القضبان قويّة جدًّا حتى لو حاولت.
إضافة إلى أنني لن أفعل ذلك. قطعًا لا. أعرف على نحوٍ كاف أنَّ خطوة كهذه غير مناسبة وقد يُساء فهمها.
لا أحبّ حتى أن أنظر من النافذة، هنالك الكثير من تلك النساء الزاحفات، ويزحفن بسرعة كبيرة.
أتعجَّب إن كنّ جميعًا قد خرجن من ورق الحائط ذاك كما خرجت أنا!
لكنني مثبّتة بأمان بحبلي المخبَّأ جيّدًا، لا يمكنكم أن تخرجوني إلى الشارع هناك!
أحسبُ أنه عليّ أن أعود إلى خلف النقش عندما يحلّ الليل وذلك صعب!
لطيفٌ جدًّا أن أكون خارج ورق الحائط في هذه الغرفة الكبيرة وأزحف فيها كما يحلو لي!
لا أريد أن أخرج. لن أفعل، حتى لو طلبت مني جِنِي ذلك.
لأنه عليك في الخارج أن تزحف على الأرض حيث كلّ شيء أخضر وليس أصفر.
لكنني أستطيع هنا أن أزحف بسلاسة على الأرضية، وكتفي تجد مُتَّسعًا ملائمًا في تلك اللطخة الطويلة الممتدة على الجدار حتى لا أضيِّع طريقي.
ها هو جون عند الباب!
لا فائدة أيها الشابّ، لا يمكنك فتحه!
كيف يصرخ ويدقّ الباب!
والآن يصيح طالبا فأسًا.
سيكون مُخزيًا أن يكسر ذلك الباب الجميل!
قلت بألطف صوت: "عزيزي جون! المفتاح في الأسفل عند السلالم الأمامية تحت شجرة الموز!"
أسكته ذلك بضع لحظات.
ثم قال بهدوء جمّ حقّا: "افتحي الباب يا حبيبتي!"
قلت: "لا أستطيع، المفتاح في الأسفل عند الباب الأمامي تحت شجرة الموز!"
ثم كرَّرت ذلك عدة مرات بلطف شديد وببطء، وقلته مرارًا حتى ذهب ليرى، ومن دون شك أنه حصل على المفتاح، ودخل. وقف لحظة أمام الباب.
صاح: "ما الخطب؟، بحقّ السماء ماذا تفعلين!"
واصلتُ الزحف لكنني نظرت إليه من فوق كتفي.
قلت: "لقد خرجت أخيرًا رغمًا عنك وعن جيْن[1]؟ ومزَّقت معظم الورق حتى لا تتمكَّن من إرجاعي إلى هناك!"
لماذا فقد ذلك الرجل وعيه؟ لكنه فقد وعيه، وفورًا أمام مساري عند الجدار، حتى إنَّه كان عليّ أن أزحف فوقه في كل مرَّة!




[1] لعلّها الساردة نفسها (المترجمة)