للكاتب الهندي البريطاني رانا داسغوبتا Rana Dasgupta
ترجمة زوينة آل تويّه
المصدر: الجارديان
وأنت توجّه شاشة هاتفك نحو كل شيء، من كاتدرائية نوتردام إلى قطعة من كعكة الشوكولاه، تذكّر أن هذه الصور لن تكتسب أهميتها إلا بعد أن ترحل.
ها هو الصيف يُقبل مجدّدا، ويحزم الناس حقائبهم هربًا منه، عيونهم مستعدة لمشاهد حيّة: شواطئ مشمسة، ومتاحف شهيرة، ومقاهٍ مظلَّلة.
ومع ذلك، هناك عيون أكثر من ذي قبل سترى أن لا شيء أكثر حياةً من شاشات هواتفهم الذكية. لن يكونوا بحاجة إلى النظر إلى غروب الشمس وأشجار النخيل، ذلك لأن بحوزتهم نسخًا متكاملة على أجهزتهم (كْلِك!). لن يُسبّب الحجم الضخم لكاتدرائية نوتردام في باريس، أو المسرح الروماني [كولوسيوم] في روما أيَّ إجهادٍ للعين: ستكون العين قادرة على رؤية عظمة هذه المواقع بحجمٍ رقمي مصغّر وغير مؤذٍ (كْلِك!)، وستمنحها الشاشات نسخها الخاصة من الموناليزا أو من زهور عباد الشمس لڤان جوخ، نُسخًا تتميّز عن الأصول تميّزا كبيرا، نُسخًا يمكن امتلاكها وحفظها واستخدامها مادةً لحكايةٍ شخصية على الإنترنت.
عندما نرى مزيدا من الآباء والأمهات يراقبون أطفالهم يكبرون على نحوٍ كامل على الشاشة، يغدو واضحًا أن حفظ المحفزات الحسيّة لدينا في هيئة رقمية أصبح حدثًا رئيسًا. لا أحد يظن حقًّا أنه سيجلس في المستقبل ليستعيد كل شيء سجّله. من الواضح أن ذلك ليس الهدف. كلا، فالفكرة هي أن الذاكرة الاعتيادية أصبحت غير كافية لأن تكون تسجيلا ل"الحياة"، أيًّا يكن ذلك. تحتاج التجربة الإنسانية إلى أن تتحول إلى تجربة غير إنسانية كي تكون واقعية. إِنْ لم تُسجَّل رقميًّا، فإنها لم تحدث.
كيف وصلنا إلى هنا؟ إنه عصرٌ مادي عصرُنا هذا، ولهذا نحن ميالون لتصديق التفسيرات المادية. نخبر أنفسنا أن التكنولوجيا الرقمية سبّبت هذا التقليل من قيمة التجربة. غير أن التفسير المضاد، مع أنه أكثر غموضًا، صحيحٌ على حدّ سواء. إنه التقليل من قيمة التجربة ما أدّى إلى التكنولوجيا الرقمية. ليس الأمر أن الاصطناعية الرقمية موجودة، ومن ثمّ، وبمصادفة رائعة "احتاجت إليها" حياتنا الداخلية فجأةً. كلا، فنحن ومنذ أكثر من قرن محاصرون في عمليات آلية جعلتنا نتوقف عن الإيمان بتجاربنا، وكأناسٍ مستعمَرين يحاولون تأكيد ذواتهم بلغة المضطهِد نشعر بموجة من المهابة تجتاحنا مع كل كلمة جديدة نتعلمها من لسان الآلة نفسها.
وبالطبع، إن كان بمقدور الآلات الضحك، فإنها ككل المضطهِدين الآخرين السابقين ستتدحرج على الأرض من فرط الضحك على جهودنا في "تكلّم لغة الآلة". سترى حقيقة توثيقنا الذاتي المهووس: محاولة عقيمة لتأكيد ما لا نؤمن به نحن أنفسنا، أي حقيقة أننا نحيا فعلا. "أنا أزور نيويورك. آكل كعكة الشوكولاه. لديّ زهرة على شعري".
عندما كان الناس يعيشون حقًّا، لم يكونوا بحاجة إلى الاعتراض كثيرا. لم يكونوا يتخيلون أن الغرباء قد يهتمون بحقيقة أنهم تناولوا كعكة الشوكولاه على الغداء، ولا أثناء حياتهم على الأقل. كانوا على دراية أن توافه كهذه تغدو ذات أهمية في لحظة الموت وحسب، اللحظة التي يكون فيها التأثر غامرا على نحو مفاجئ عندما نتذكر أن أحدهم كانت له هذه الملابس، وهذا الطعام، وهذه الإيقاعات.
في العصر الذي كان الناس ما يزالون يؤمنون بأنفسهم، كانوا يكتبون سيرهم الذاتية. نحن، بالمقابل، أصبحنا ننعى أنفسنا. مع كل ما يفعله مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي لتوثيق ذواتهم بين يوم وآخر، فإن ما يسجلونه ليس حياة. إنه بالأحرى موت في الحياة. إنه "وجود" فرّت منه الحياة، مخلّفةً وراءها قشورًا رقمية. آثارنا في وسائل التواصل الاجتماعي نعيٌ نكتبه بأنفسنا، مجموعة من الذكريات نتركها للأجيال القادمة لنمنح قوةً لهذا الادعاء البسيط الزائف: أننا عشنا. عند لحظة مماتنا فقط تكتسب حساباتنا في الفيس بوك أو الانستجرام أهميتها الحقيقية والمقصودة دائما. وأخيرا تصبح كعكة الشوكولاه التي تناولناها مرّةً على الغداء ذات مغزى.
يكمن التحقّق الكامل لذلك في المستقبل، وسيأتي يوم يكون فيه لهذا الهوس الصيفي بالشاشة معنى في نهاية المطاف. إننا فقط لن نعيش لنراه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق