مسقط الجائعة، تاريخها القديم المدسوس الذي يجهله معظمنا، تسرده الكاتبة بلغة شائقة وحكي لا يُمل. والناس هم وقود هذا الحكي، شخصيات تتفاعل وتشتبك مصائرها على اختلاف أعراقها وأصولها لتذوب في بوتقة واحدة، فندرك أن مسقط -بل عمان كلها- منذ القدم متنوعة الأعراق والثقافات وطالما تعايش فيها الناس من أجناس شتى، وتمازجوا بالمصاهرة والجوار والجوع والفقر والغربة واليتم والموت. في سرد سيرة الجوع تتكاثر شخصيات الرواية عبر أصواتها المتعددة، ويتناول دفة السرد شخص بعد آخر، فنرى الحكاية بوجوهها المتعددة ونقرأ ملحمة مسقط القديمة من وجهات نظر ناسها ورؤاهم المختلفة، وكيف تعاقبت عليها سنوات الحروب وأثرت فيها، سواء حروبها الداخلية أم الحرب العالمية الثانية وما جرته من ويلات على مشرق الأرض ومغربها. الشخصيات مرسومة بحذق، لا يمكن حصرها في أوصاف ثنائية كالخير والشر. لا توجد شخصية خيِّرة تماما ولا أخرى شريرة تماما، لكن القارئ لا يملك إلا أن يتعاطف مع هذه الشخصيات كلها، فمهما بدت شخصية ما يتطاير الشرر من عينيها، تتكشف بداخلها حكاية ما، حكاية وجع أو هجر أو جوع أو حزن، فتجد نفسك منساقا إلى التعاطف معها وقبولها على عيوبها. وجهات النظر المتعددة التي اعتمدتها الكاتبة في سردها جعلت من هذا التعاطف ممكنا وقدمت لنا شخصيات من واقع الحياة تضج بصراعات النفس وتناقضاتها. سيرة مسقط هذه ليست سيرة الجوع فحسب، بل هي أيضا سيرة الضحك، الضحك من الفرح، الضحك من الحزن، الضحك من الألم، الضحك من العشق، الضحك من الجوع نفسه، ضحك دلشاد وابنته مريم وحفيدته فريدة. وبين هذا كله كان الموت بالمرصاد على الدوام. كمن ينظر إلى التاريخ عن كثب دون الوقوع في شرك التقريرية، استطاعت الكاتبة أن تنسج رواية زاخرة بالتفاصيل بدت فيها مسقط شجرة معمرة مثقلة بالثمار رغم أنف الجوع.
زوينة آل تويّه