الاثنين، 11 نوفمبر 2019
حُبٌّ قليلٌ جدًّا في العالم
غناء: كيني روجرز Kenny Rogers
كلمات: مايكل سموذرمان Michael Smotherman
ترجمة: زوينة آل تويّه
حُبٌّ قليلٌ جدًّا في العالم
ذات أصيلٍ ماطرٍ في محطة الاتحاد
إذ أجلس وحيدًا وأنتظر قطاري
استرقتُ السَّمع إلى حديث عاشقيْن
يفيضُ أسًى وألمًا
سمعتُ فتاةً تقول: متى يغادر قطارُك؟
جدول المواعيد غائم، وثمَّة شيءٌ في عيني
سمعتُ فتًى يقول: سأصعد إليه باكرًا
بصوتٍ متهدِّج يردّد وداعًا
فكَّرت أنَّ ثمَّةَ حُبًّا قليلًا جدًّا في العالم
ثمَّةَ حُبٌّ قليلٌ جدًّا في العالم
لهؤلاء الملايين من الفتيان الوحيدين والفتيات الوحيدات
لماذا يوجد حُبٌّ قليلٌ جدًّا في العالم؟
رأيتهما يسيران معًا عبر المحطة
رأيتُ الفتاةَ تعود وحيدةً ورأسها مُنكَّس
شفتاها المرتعشتان الإشارةُ الوحيدة
إلى صراعها الخاسر في الإمساك عن البكاء
ذات أصيلٍ ماطرٍ في محطة الاتحاد
إذ أجلس وحيدًا وأنتظر قطاري
استرقتُ السَّمع إلى حديث عاشقيْن
يفيضُ أسًى وألمًا
سمعتُ فتاةً تقول: متى يغادر قطارُك؟
جدول المواعيد غائم، وثمَّة شيءٌ في عيني
سمعتُ فتًى يقول: سأصعد إليه باكرًا
بصوتٍ متهدِّج يردّد وداعًا
فكَّرت أنَّ ثمَّةَ حُبًّا قليلًا جدًّا في العالم
ثمَّةَ حُبٌّ قليلٌ جدًّا في العالم
لهؤلاء الملايين من الفتيان الوحيدين والفتيات الوحيدات
لماذا يوجد حُبٌّ قليلٌ جدًّا في العالم؟
رأيتهما يسيران معًا عبر المحطة
رأيتُ الفتاةَ تعود وحيدةً ورأسها مُنكَّس
شفتاها المرتعشتان الإشارةُ الوحيدة
إلى صراعها الخاسر في الإمساك عن البكاء
الأحد، 10 نوفمبر 2019
صورٌ وتفاصيل
يقرأ رواية، تقفز بين سطورها صورٌ حزينة وتفاصيل حميمة من مكان سحيق في رأسه. يعيد قراءة السطور ليعرف لماذا قرّرت السيدة الجميلة (وُو) أن تجلب محظية لزوجها الوسيم السيد (وُو) عندما بلغت الأربعين، لكن الصور والتفاصيل تعاود النطّ فوق الحروف هذه المرة مؤدية حركات بهلوانية. تتأرجح حينًا من فوق العصا الطويلة لحرف اللام الإنكليزي، وحينًا تتكوّر داخل فجوات الحروف المغلقة. أخذت الصور والتفاصيل تتداخل مع الأحداث اليومية في بيت السيدة وُو الكبير. قرّر أن يطمر فجوات الحروف ويرسم أشكالا مبهمة حول الكلمات ليطرد الصور والتفاصيل وليعرف لماذا قررت السيدة الجميلة وُو أن تجلب محظية لزوجها الوسيم السيد وُو بعد أن تقاسما الحياة عشرين عاما وأنجبت له ثلاثة أبناء. الصور والتفاصيل لا تكلّ. راحت هذه المرة تشدّ أعقاب الحروف حتى أن حرف السين الإنكليزي لم يعد حرف سين، استطال وصار يشبه حرف اللام. تغير ترتيب حروف كلمات كثيرة وبدأت أحداث جديدة في الرواية بطلتها الصور والتفاصيل. اختفت السيدة وُو وبيتها الكبير وأحفادها ووصيفاتها وطباخها الماهر وجارتها البريطانية المزعجة التي تتحدّث صينية مكسَّرة. ولم يتمكّن قطّ من معرفة سرّ قرار السيدة وُو إيجاد محظية للسيد وُو.
الأحد، 6 أكتوبر 2019
الخميس، 12 سبتمبر 2019
قدرٌ ومعطفٌ أزرق
قَدَرٌ ومِعطفٌ أزرق
تومَس هاردي
ترجمة: زوينة آل تويّه
I
"صباح الخير يا آنسة لَفِل!"
قال
الشَّابُّ، بطريقته الحُرَّة المعتادة مع الفتيات الريفيات الجميلات الأغرار.
أدركت
أغاثا بولِن –الفتاة المخاطَبَة- فورًا كيف وقع الخطأ. كانت الآنسة لَفِل تملك
معطفًا خريفيًّا أزرق، وقد بدا زاهيًا بصورة استثنائيَّة لا تلائم ارتداءه في
قرية. وابتاعت أغاثا لنفسها، مضاهاةً لا جِدًّا، معطفًا مماثلًا تُحسَد عليه،
وارتدته اليوم أوَّلَ مرة. ربَّما تجدر الإشارة إلى أنَّ الفتاتين خرجتا معًا من
منزليهما قاصدتيْن ميْدن نيوتن في صباح سبتمبر الغائم هذا، وقد أطالت أغاثا رحلتها
لتتجه إلى وَيْمِث بالقطار تاركةً صاحبتها في المكان السابق. التحيةُ أُلقِيَتْ
عليها في ممشى وَيْمِث.
كانت
أغاثا على وشك الرَّد بطريقة طبيعية جدًّا: "لستُ الآنسة لَفِل"، بل
ومضت بعيدًا إلى حدِّ أنها أدارت وجهها له لهذا الغرض، وإذ به يضيف قائلًا:
"لقد كنتُ أرجو لقياك. وسمعت –حسنًا، يجب أن أقولها- سمعتُ بجمالك، منذ زمن طويل، مع أنني قدمتُ إلى
بيمنستر البارحة وحسب."
أومأت
أغاثا شاكرة –مناقضةً كلَّ ما كانت ستقول- ومضيا يمشيان ببطء في الممشى دون أن
ينبسا بكلمة بعد ملاحظته الصريحة في الأعلى. بدا جليًّا أنَّ صديقها الجديد لم
يرها ولم يرَ الآنسة لَفِل قطُّ إلا من بعيد.
ارتعدت
أغاثا وأومأت. لقد ذاع صيت الآنسة لَفِل هذه –فرانسِس لَفِل- كثيرًا وطويلًا بأنها
جميلة قرية كلوتون القريبة من بيمنستر. كانت في الخامسة والعشرين ومكتملة النضج،
وأمَّا أغاثا فلم تكن إلَّا ابنة أخي طحَّان القرية نفسها، ولها من العمر تسعة عشر
عامًا وحسب، ولم تكن تتمتَّع بقَدْرٍ وافرٍ من الجمال مع أنَّها من دون شك قد
تتباهى بالكثير. والآن، لو أدرك المتحدِّث أُوزْوُلْد وِينْوُد أنه لم يُبصَّر
بهِلِن[1] الحقيقية،
لاعتذر فورًا عن خطئه وتركها وشأنها، لم تكن تلك المصادفة بذات أهمية إلا لشأن
عاطفي مثير للفضول، ذلك أنَّ أغاثا كانت قد أسلمت قلبها له. لقد نما اهتمامها هذا
بِوِينْوُد سرًّا فقط، من خلال سماعها الكثير عن موهبته ومراقبته مرات عديدة من
النافذة، بيْد أنَّه راق لها أن تكتشف رغبة الآنسة لَفِل في مقابلة المفكِّر
اللامع ذاته ومحادثته، تلك الرغبة التي تقترب بطريقة منصفة من قوَّة رغبتها هي.
لسنا مادحين عادلين مطلقًا، حتى في الحب، وعادةً ما تكون المنافسة حافزًا للتقدير،
حتى عندما تقف عقبةً في طريق الفرصة. وهكذا كان الأمر حين تحدَّثت أغاثا إلى
الآنسة لَفِل عن أُوزْوُلْد وِينْوُد ذلك الصباح.
كان
موسم وَيْمِث على وشك الانقضاء، ولم يكن هناك سوى بعض المتسكعين في ساحة
الاستعراض، ولا سيَّما في هذه الساعة المبكرة. نظرت أغاثا إلى البحر القزحي وكانت
غشاوة الضباب تنقشع عنه شيئًا فشيئًا، وإلى المنحدرات البيضاء عن يسارها وقد بدأت
تتلألأ تحت ضوء الشمس الواهن، وإلى اليخت الوحيد في عُرْض البحر، ولم تزل تؤجِّل
تفسيرها. استطرد رفيقها قائلًا:
"الضباب يتلاشى، انظري، وأعتقد أنَّ كلَّ شيء سيكون على ما
يرام على أيَّة حال. هل ستبقيْن في وَيْمِث اليوم كلَّه؟"
"كلَّا. إنني ذاهبة إلى بورتلَنْد على متن باخرة الساعة
الثانية عشرة، ولكنني سأعود إلى هنا في السادسة ليُقلَّني قطار السابعة قافلةً إلى البيت."
"وأنا ذاهب إلى ميْدن نيوتن على متن القطار نفسه، ثم إلى
بيمنستر بالعربة."
"وأنا كذلك."
"أتُراك ستمشين من بيمنستر وحتى كلوتون في ذلك الوقت
مساء؟"
"سوف يستقبلني أحدهم، والمسافة ميل واحد فقط كما تعلم."
وهكذا
بدأ كلُّ شيء. ليس من الضروري مناقشة البقيَّة بالتفصيل. ولأنهما شابَّان
ومتهوِّران بعض الشيء، لم يعيرا الأعراف الاجتماعية اهتمامًا كبيرًا. وقد اكتشفت
أنه على متن الباخرة التي راحت تحرث الأمواج الزمرديَّة في خليج وَيْمِث، مع أنه
كان قد ودَّعها وداعًا رسميًّا على الرصيف البحري. قال إنه بدَّل رأيه وفكَّر في
السفر إلى بورتلَنْد أيضًا. عادا على متن الباخرة نفسها، وسارا على الرمال
المخمليَّة حتى حان موعد القطار فأقلَّتهما فيه عربة معًا.
طوال
هذا الوقت وفي غمرة فرحها، كان ضمير أغاثا يكدِّره إحساس بالذنب لأنَّها لم تخبره
بخطئه بعد. صحيحٌ أنه لم يُنادِها بالآنسة لَفِل سوى مرة أو مرتين منذ أول لقاء في
الصباح، بيْد أنَّه كان من المؤكد أنَّه ما يزال تحت تأثير تصوُّر أنَّها فرانسِس
لَفِل. ومع أنها تدرك أنه انقاد إليها باسم امرأة أخرى، فقد كان شخصُها الملائم ما
أوقعه سريعًا في الحب، وقد أوحت إليها بصيرتها الأنثوية بسعادة بأنَّ صاحبة الوجه
الذي ينتمي إلى هذا الاسم لن تعود لها أيَّة سطوة بعد هذا اللقاء بإبعاد
أُوزْوُلْد عن صاحبة الوجه التي قابلها في هذا اليوم الرومانسي.
بلغا
ميْدن نيوتن في الغسق، وقصدا باب النُّزُل حيث تقف عربة مغطَّاة، عتيقة الطراز،
لتقلَّهما إلى بيمنستر. كانت العربة على وشك الانطلاق، وما كادا يركبان في
مقدِّمتها حتى انطلق الرجل المُسِنَّ فورًا على الرابية الممتدة إلى خارج القرية.
قال
أُوزْوُلْد وهما جالسان جنبًا إلى جنب: "لقد كانت تجربة ساحرة لي يا آنسة
لَفِل، إنَّ للمصادفة طريقتَها في جعل نفسها لطيفةً عندما يفشل اللقاء المفتعل في
ذلك."
لقد
كان لزامًا عليها الاعتراف هذه المرَّة، مع أنَّ كلَّ سعادتها سيُقضى عليها مرةً
واحدة.
قالت
متلعثمةً: "في الحقيقة لستُ الآنسة لَفِل!"
صاح
مدهوشًا: "ماذا! ألستِ السيدة الشَّابَّة، ألستِ فرانس لَفِل حقًّا؟"
"سامحني يا سيد وِينْوُد! أردتُ أن أخبرك بخطئك، أردت ذلك
حقًّا طوال اليوم، ولكن لم يسعني ذلك، وهذا تصرُّف شرِّير وخاطئ مني! أنا المسكينة
أغاثا بولِن وحسب، التي تقطن عند الطاحونة."
"ولكن لِمَ لمْ يسعك إخباري؟"
"لأنني خشيتُ أن تهجرني إن أخبرتك ولا تعود تأبه لأمري،
وأنا.. أنا.. أنا أحبُّك كثيرًا جدًّا."
ولمَّا
كان سائق العربة قد ترجَّل ووقف قرب الحصان، والعربة مظلمة، ومشاعر أُوزْوُلْد في
الواقع دافئة، لم يسعه مطلقًا تجنُّب تقبيلها فورًا.
قال:
"حسنًا، لا يهمّ، أنتِ تظلِّين أنتِ على أيَّة حال. أنتِ من أحبّ وليس أيّ
شخص آخر في العالم، ليس الاسم. ولكن، أتعلمين، لقد كنت حقًّا أبحث عن الآنسة لَفِل
هذا الصباح. رأيت مؤخرة رأسها البارحة، وطالما سمعتُ كم هي جميلة. آه! هَبِي
أنَّكِ هي. أتعجَّب.."
ولم
يكمل العبارة. ركب السائق العربة، همز الحصان بالسوط وانطلقوا.
قالت:
"أسامحتَنِي؟"
"تمامًا، قطعًا، السبب يبرِّر كلَّ
شيء. كم يبدو غريبًا اهتمامك الجادُّ بي وجهلي بذلك كلَّ هذا الوقت!"
بلغا
بيمنستر وترجَّلا، وساعدها أُوزْوُلْد في النزول. وما كادا يبرحان مكانهما حتى
ترجَّلت امرأة أخرى، وأسقطت النقود في يد السائق وانصرفت.
قال
أُوزْوُلْد للسائق: "من تلك؟ اعتقدت أننا كنا المسافريْن الوحيديْن!"
قال
السائق الذي كان غبيًّا بعض الشيء: "ماذا؟"
"من كانت تلك المرأة؟"
"الآنسة لَفِل، من كلوتون. لقد غيَّرت رأيها بشأن البقاء في
بيمنستر وقرَّرت العودة إلى منزلها."
قالت
أغاثا وهي على وشك الانهيار: "أوه! لقد سمعتْ كلَّ شيء. ماذا سأصنع، ماذا سأصنع؟"
قال
أُوزْوُلْد: "لا تهتمي مطلقًا."
II
كانت
الطاحونة تقوم بالقرب من طريق القرية السريع حيث يفصل بينهما النَّبع الذي كان
يُشكِّل أيضًا حدود حديقة الطاحونة والبستان وحقل ترويض الخيول في تلك البقعة.
إنَّ الزائر الذي يعبر الجسر الخشبي الصغير المغروس في النبات المائي الموحل يجد
نفسه في مكان تقف فيه عادة عربة محمَّلة بالأكياس ويحيط بها عدد من الطيور ذات
الريش البرَّاق.
كان
الوقت ما يزال غسقًا، بيْد أنَّ الطاحونة لم تقفل أبوابها بعد، وكان ثمَّة شريط من
الضوء يمتد كالمعتاد من بابها المفتوح، إلى الواجهة، والنهر، ثمَّ إلى ما وراء
الشجيرات. وعلى الجسر، الذي كان قريبًا من شريط الضوء، وقف شابٌّ وفتاة يتبادلان
الحديث. وسرعان ما تحرَّكا قليلًا مبتعديْن عن بعضهما بعضًا، ثم اتضح أنَّ يديهما
اليُمنيين كانتا متشابكتين. وفي اقترابهما وابتعادهما عن بعضهما بعضًا كانا
يؤرجحان ذراعيهما برفق للخلف وللأمام.
قال:
"تعالي نصعد الطريق قليلًا يا أغاثا لأنَّ هذه هي المرة الأخيرة. لا أودُّ أن
نفترق هنا. تعلمين أنَّ عمَّك لن يعترض."
همست:
"لن يعترض لأنه لا يعرف شيئًا حتى يعترض." ثم راح كلاهما يتأمل الهيئة
الأنيقة والبِنيَة القويَّة للعمِّ المقصود الذي أمكن رؤيته وهو يتنقَّل داخل
الطاحونة، وجهه مُضاءٌ بالشمعة ومُحاطٌ بهالة خفيفة من الدقيق، وكان أزيز الطاحونة
يحول دون سماعه حديثًا لطيفًا جدًّا كحديث عاشقيْن.
لم
يفلت أُوزْوُلْد يدها، وبدت أغاثا مستسلمةً لعبوديَّة أحبَّتها أكثر من الحرية،
فتبعته
عبر الجسر، واتَّجها إلى أسفل الطريق منشغليْن بكلام حزين هامس ومألوف في
حالات كهذه وتخلَّلته تعليقات خاصة بحالهما.
قال:
"لا شيء مخيف في الأمر يجعلك تفكِّرين فيه، كثيرون عاشوا هناك سنوات في حالة
صحية جيِّدة وعادوا إلى أوطانهم بالحالة السعيدة نفسها. وهكذا سيكون حالي."
"آمُل ذلك."
"ولكنْ ألست مسرورة لأنني سأذهب؟ من الأفضل أن يكون وضعي
جيِّدًا في الهند من أن يكون سيِّئًا هنا. قولي أنك مسرورة يا عزيزتي، فذلك
سيمدُّني بالقوَّة عندما أرحل."
غمغمت
بصوت واهن: "أنا مسرورة، أقصد أنني مسرورة في عقلي ولكن لا أعتقد أني كذلك في
قلبي."
قال
بحماسة: "الفضل يعود إلى ماكولاي[2]، تقدَّست ذكراه،
في حصولي على أفضل فرصة بين الجميع! كم هو شيء عظيم الامتحان التنافسي! إنه يضع
الأشخاص المناسبين في الأماكن المناسبة، ويجعل الأشخاص الأقل شأنًا ينحدرون أكثر،
وسوف يُقضى على البيروقراطية الاستغلالية كلِّها."
"ماذا تعني البيروقراطية يا أُوزْوُلْد؟"
"أوه، هكذا تُدعى. إنها، حسنًا، لا أعرف ما هي على وجه
التحديد. أعرف هذا، أنها اسم شيء أكرهه، وهو ليس الامتحان التنافسي."
قالت
على نحو قاطع: "على أية حال، هي شيء سيِّئ جدًّا."
"سيئ جدًّا، حقًّا. كوني على يقين من كلامي."
ثم بدأ
مشهد الفراق، في الظلام، تحت الأشجار الكثيفة التي كانت تحجب السماء والنجوم.
علَّق قائلًا: "ولأنني سأكون في لندن إلى أن يحلَّ الربيع، فلن يكون الفراق
سيئًا جدًّا وهكذا مرة واحدة. لعلَّك تستطيعين المجيء إلى لندن قبل حلول الربيع يا
أغاثا."
"ربَّما، ولكن لا أعتقد أنني سأفعل."
"يجب أن نأمل. ثم سيكون هناك الامتحان وبعدها سأعرف
مصيري."
صاحت
منفجرة بالبكاء: "أتمنى أن تفشل! هاك لقد قلتُها، لا أستطيع المقاومة يا
أُوزْوُلْد! سوف تعود إلى الوطن!"
"كيف يمكنك أن تكوني محبِطة وشريرة للغاية هكذا يا أغاثا!
لم.. لم أتوقَّع..."
قالت:
"لا، لا، لا أتمنى ذلك، أتمنى أن تكون الأفضل والأعلى، لم أقصد غير ذلك،
حقًّا، يا عزيزي أُوزْوُلْد، لم أقصد. وهل ستكون واثقًا من العودة إليَّ عندما
تصبح ثريًّا؟ أمتيقِّنٌ أنك ستأتي؟"
"إن بقيتُ حيًّا على هذه الأرض سأعود إلى الوطن
وأتزوَّجك."
ثم تلا
ذلك الوداع.
III
في
الربيع كان الامتحان. ذات صباح وُضِعت بين يديها صحيفة أرسلها أُوزْوُلْد، وفتحتها
لتجد أنها نسخة من التايمز. في منتصف الصفحة، وفي أكثر الأماكن بروزًا، في المكان
المتميِّز المجاور للمقالات الرائدة، كانت هناك قائمة أسماء، وكان الأول في
القائمة هو أُوزْوُلْد. وبالقرب من اسمه برز المكان الذي تلقَّى فيه تعليمه،
والاسم المتواضع لأكاديمية صغيرة مغمورة، في حين جاء في الأسفل فوج طلبة المدارس
والكليات العامة. مثل هذه الحالة تحدث أحيانًا وحدثت في ذلك الحين.
كم
صفَّقت أغاثا! ذلك أنَّ رغبتها الأنانية في أن يبقى في إنكلترا بأي ثمن حتى لو
فشل، لم تكن أكثر من نوبة مفاجئة بسبب الفراق البائس، وقد تلاشت الآن تمامًا.
اجتمعت الظروف لتقف حائلًا دون لقاء آخر بينهما قبل رحيله، ووفق ذلك، مستسلمةً
للمحتوم بطريقة كانت ستغدو مشرِّفة لعقل أكبر، راحت تركِّز تصوُّراتِها العقليَّة
في ذلك المستقبل المشمس البعيد، الذي مع ذلك يقترب دومًا، وفكَّرت في الإمكانات
بأمل راسخ.
أخيرًا
وصل إلى الهند، وما على أغاثا الآن إلا العمل والانتظار، وقد جعل الأوَّلُ اللاحقَ
أكثر يُسرًا. أخذت في ساعات فراغها تَجُول في ضفاف النهر وفي الأَيْك وهي تنسج
الأفكار عنه بطرق تفهمها النساء الصغيرات جيِّدًا. احتفظت بدفتر يوميات، ولأنَّه
لم تكن هناك سوى أحداث قليلة تسجِّلها في حياتها اليومية، راحت ترسم فيه المناظر
الطبيعية، وتسجِّل وصول الطيور ورحيلها، وأوقات العواصف والطقس الرديء، وكلها
أخبار اختلطت بحياتها وأكسبتها لونًا، فكانت ترسلها إليه في قصاصات، مستمدَّةً
جلَّ متعتها من تأمُّل حياته.
أُوزْوُلْد،
من جانبه، كان يبعث رسائله بانتظام بالغ. ولأنها تعرف الأيام التي يصل فيها البريد
من الهند، كانت تذهب في هذه الأوقات لتقابل ساعي البريد في الصباح الباكر،
وقلَّما، حقًّا، كان يأتيها ردٌّ مُحبِط على سؤالها الذي لا يتغيَّر: أَهِيَ رسالة
لي؟ وهكذا انقضى الموسم، وأخبرها أُوزْوُلْد بأنه سيصبح قاضيًا يومًا ما، وتفاصيل
أخرى كثيرة، تراها في المقام الأول محمَّلة بالهدف الأسمى، بأنَّه سيأتي
وسيتزوجها.
في هذه
الأثناء، كبرت الفتاة وغدت امرأة أنضج، وأمَّا المرأة التي سرقت منها مرَّةً
اسمَها يومًا واحدًا، فقد صارت آنسةً متقدِّمةً في السن وظهرت عليها أعراض الشحوب.
في أحد الأيام، أخبرها عمُّها الذي، مع أنه لم يزل رجلًا وسيمًا في مقتبل عمره،
كان أرملَ ولديه أربعة أطفال قامت معهم بِدَوْر الأخت الكبرى، أخبر أغاثا أنَّ
فرانسس لَفِل ستصبح زوجته الثانية قريبًا.
قالت
أغاثا: "حسنًا!"، وفكَّرت: "يا لها من نهاية لامرأة جميلة!"
ومع
ذلك، كان ذلك كلّه معقولًا على نحوٍ كافٍ، بالرَّغم من أنَّ الآنسة لَفِل قد تبدو
بمنزلةٍ أكبر. أدركت أغاثا أنَّ هذه الخطوة ستُحدِث تغيُّرًا كبيرًا في طاحونة
كلوتون، وفكرة أن تكون عمَّتُها وسيِّدتُها المرأةَ نفسَها التي كانت هي بمعنًى ما
مدينةً لها بحبيب، بعثت في نفسها إحساسًا طفيفًا بالخوف. حتى الآن، لم يدُر حديث
بين المرأتين يُظهر أنَّ فرانسس قد سمعت، فضلًا عن استيائها، التوضيحَ الذي حدث في
العربة ليلة العودة تلك من وَيْمِث.
IV
في أحد
الأيَّام جاء المزارع العجوز لَفِل زائرًا. كان من عائلة فرانسس نفسها، مع أنَّ
القرابة بينهما كانت بعيدة. كان هناك الكثير من العمل الخاص بالذُّرة بين وقت وآخر
بين الطحَّان والمزارع، ولكنَّ الأخير كان نادرًا ما يزور بيت بولِن. كان عازبًا،
ولولا ذلك لعلَّه ما كان ليظهر بتاتًا في هذه القصة. وكان في الأغلب مفعمًا بفرح
صبياني نادر خلال سنة من سنوات عمره. واليوم كان عمله مع الطَّحَّان حتميًّا إلى
الحدِّ الذي جعله يأتي شخصيًّا، وكان واضحًا من حديثهما في الطاحونة أنَّ الأمر له
علاقة بالمال. لعلَّ عشرَ دقائق فقط كان كلُّ ما استغرقه الحديث الجَّادُّ عندما
استدار المزارع العجوز نحو الباب، ودون أن يقول عمتَ صباحًا اتَّجه صوب الجسر. كان
ذلك غير معتاد من رجل بمزاجه.
كان
مُسنًّا، مُسنًّا حقًّا وبكل ما في الكلمة من معنى، ذا خمسة وستين عامًا على
الأقل. لم يكن واهنًا تمامًا، ولكنَّه وجد عصا مفيدة للمشي عند هبوب ريح قويَّة.
لم تكن عيناه غائمتين بعد، ولكن كان ثمَّة في زاويتيهما أحيانًا رطوبة تشبه خزفًا
صقيلًا، تغيب تمامًا عند الشباب. لم يكن وجهه ذابلًا، ولكن كان ثمَّة تجاعيد
جليَّة في بعض الأماكن. ومع أنَّ النبيل العجوز كان غير متزوج وثريًّا ومبتهجًا،
لم تُغرَم به فتيات كلوتون كما كانت تفعل أمهاتُهن في وقت سابق. كلَّ عام كان صدره
يقترب أكثر من أصابع قدميه، وذقنه من صدره، وعلى نحو متَّسق، عندما كان يخفض أنفه
نحو الأرض ترفع الجميلات أنوفهن صوبه. لعلهنَّ كنَّ سيُعجَبنَ به صديقًا لو أنَّه
لم يظهر أمنيته الشَّاذَّة في أن يعتبرنه عاشقًا. في نظر أغاثا بولن، كان هذا الشَّابُّ
المُسنُّ كريهًا على نحو قاطع.
حدث في
أثناء ساعة زيارة السيد لَفِل أن كانت أغاثا تنحني فوق البركة الصغيرة الواقعة على
رأس الطاحونة، غامسةً قماشة بيضاء في الماء. لم تكن واعيةً مطلقًا حضورَ المزارع
قريبًا منها، وواصلت غمس قطعة القماش وشطفها بأكسل طريقة ممكنة في العمل حتى بقيت
ثابتة ممسكة قطعة القماش تحت الماء وتنظر انعكاسَ وجهها فيه. مع أنَّ النهر كان
يجري ببطء، كان رائقًا جدًّا إلى حدِّ أنَّ العجوز الواقف على الجسر اعتقد أنها
توجد في نسختين؛ الفم العابس، الأنف الصغير، الشَّعر المجعَّد، الشريط الأزرق،
جميعها موجودة على السطح ولكنها أكثر وضوحًا بدرجةٍ عن الملامح نفسها البادية في
الأسفل على صفحة النهر.
"يا لها من عذراء جميلة!" قال العجوز لنفسه ومشى حتى
حافة النبع ووقف
إلى جانبها.
قالت
أغاثا مأخوذةً على حين غِرَّة: "أوه!" وفي غمرة اضطرابها أفلتت القماشة
التي كانت تشطفها، فانقلبت ببطء وغرقت عميقًا ثم انسلَّت باتجاه كُوَّة عجلة
الطاحونة.
صاحت:
"هناك، ستعلق بالعجلة وتتمزَّق إلى قطع."
قال
المزارع لَفِل وهو ينحني بحذر مناورًا بقوته كلها: "سأصطادها بعصاي يا
عزيزتي. ما هذا الشيء، هل هو ذو قيمة غالية؟"
قالت
على نحوٍ لاإرادي: "نعم، إنه أفضل ما لديّ."
"ما... ما هو؟"
"إنَّه شيء وحسب، قطعة كَتَّان." عندئذ فقط اصطاد
المزارع القماش المعرَّض للخطر وسحبه خارجًا، رفعه عاليًا فوق عصاه وهو يقطر
ولكنَّه في أمان.
قال:
"ماذا، إنه قميص تحتانيّ!"
احمرَّ
وجه الفتاة، وبدلًا من أن تأخذه من قمَّة العصا استدارت.
ضحك
الرجل العتيق: "هِي هِي، حسنًا يا عزيزتي، لا شيء يثير الخجل مما أراه في
امتلاك قطعة لباس ضرورية وبريئة كهذه. سأضعه لك على العشب. وعليك أن تأخذيه عندما
أنصرف."
ثم
انصرف المزارع لَفِل، رافعًا أصابعه خفيةً وهو يعبِّر عن دَهَشِه بمستوًى بسيط
وهمهم: "يا لها من شيء صغير جميل! حسنًا، بالطبع. نعم طفلة جميلة، بل هي
امرأة صغيرة حقًّا، امرأة قابلة للزواج، قطعًا هي كذلك."
أخذ
العجوز المولَّه يفكِّر في الشابة طوال ذلك اليوم بطريقة لم تفكِّر الشابة بها
فيه. فكَّر فيها كثيرًا، حتى إنه في المساء، عوضًا عن الذهاب إلى فراشه، خرج سرًّا
من الباب الخلفي تحت ضوء القمر، وعبر حقلًا أو اثنين، ووقف في الطريق ينظر إلى
الطاحونة، ليس إلا طمعًا في الحصول على لمحة من البنت الفاتنة في الداخل ولا أكثر
من لذة معرفة أنها هناك.
تحرَّك
ضوء في الداخل، اقترب ثم ارتفع. كانت النافذة المقابلة للسُّلَّم كبيرة، ورأى آلهته
تصعد وفي يدها شمعة. هذا أمرٌ يستحق المجيء حقًّا. خشي أن تراه أيضًا، ولكنه في غمرة
شغفه تمنَّى العكس، ذلك أنَّها أقبلت وأسدلت ستارة النافذة حاجبةً تحديقه تمامًا.
اختفى الضوء من هذه الناحية، وعاود الظهور في النافذة أبعد قليلا.
اقترب
العاشق أكثر، هذه إذن غرفة نومها. اتَّكأ بحماسة على عصاه وشدَّ ظهره على نحو
عمودي تقريبًا رافعًا وجهه المُتيَّم.
أقبلت
إلى النافذة، توقَّفت، ثم فتحتها.
"ليتبارك قلبها الحبيب! سوف تتحدث إليّ!" قال العجوز
مرطِّبًا شفتيه، ومستريحًا ما يزال على عصاه بنفاد صبر، وشادًّا ظهره ليصبح أطول
بمقدار إنش. "لقد رأتني!"
لكنَّ
أغاثا لم تُبدِ أيَّة إشارة. كانت منحنية لغرض مختلف تمامًا. كان على إفريز
نافذتها صندوق به صفٌّ من عشبة الخزامى، التي أُهمِلت على نحو حزين منذ رحيل
حبيبها، وبدأت تسقيها وكأنَّما ألهمها تذكُّرُها المفاجئ حالَ النبتة. أخذت تسكب
الماء ببطء من الإبريق على طول صفِّ الأعشاب، ثمَّ، مدهوشةً، رأت صديقها العجوز في
الأسفل.
غمغمت:
"شيءٌ عجوزٌ وقح!"
وجَّهت
فم الإبريق فوق حافة الصندوق، ونظرت إلى اتجاه آخر بحيث يبدو ذلك مصادفة، وسمحت
لتيار الماء بالرَّشرشة نحو الأسفل على وجه مُعجَبِها وعنقه وكتفيه، وهو ما جعله
يتراجع بسرعة. ثم أغلقت أغاثا النافذة بهدوء وأسدلت الستارة كذلك.
"آه! لم ترَني، كان واضحًا أنَّها لم ترَني وأنا كنت
مخطئًا!"
قال
المزارع المرتعش، ماسحًا وجهه بسرعة وشافطًا قدر المستطاع أخاديد الماء المتقاطرة
إلى داخل ياقة قميصه واضعًا حدًّا لها بأيِّ حال من الأحوال.
"مخلوق جميل، وبريء جدًّا أيضًا! تسقي زهورها، يا لها من فتاة
مغرمة بالزهور! أتمنَّى لو أنها تكلَّمت وأتمنَّى لو كنت أصغر سنًّا. بلى، أعرف ما
سأصنع بالفأرة الصغيرة!"
وراح
النبيل العجوز ينقر الأرض بعصاه بانفعال.
قال
لها عمُّها هَمْفري بعد أسبوع أو ثلاثة أسابيع لاحقًا: "أغاثا، أظنُّ أنك
سمعت الأخبار من شخص آخر حتى الآن؟ أقصد ما كان يحدِّثني عنه المزارع لَفِل."
قالت
أغاثا: "كلَّا، مطلقًا."
"يريد أن يتزوَّجك إن شئتِ."
قالت
مرعوبة: "أُوه، مطلقًا، ذلك العجوز!"
"عجوز؟ إنه معافى ويتمتَّع بصحة جيدة، والأهم أنه رجل يملك
الكثير. سيمنحك بيتًا مريحًا، ويجعلك تتأنَّقين كدُمية، وأنا متيقِّن أنك ستحبين
ذلك، أم تُراكِ لست امرأةً أنجبتها امرأة!"
"ولكن لا يمكن ذلك يا عمي! ثمَّة أسباب أخرى..."
"أيَّة أسباب؟"
"عجبًا! لقد قطعتُ وعدًا لأُوزْوُلْد وِينْوُد منذ
سنوات!"
"أقطعتِ وعدًا لأُزْوُلْد وِينْوُد منذ سنوات، أفعلت
ذلك؟"
"بلى، مؤكَّدٌ أنت تعرف ذلك يا عمي همفري. ونتكاتب
بانتظام."
"حسنًا، أستطيع أن أتذكَّر أنك كثيرًا ما تخربشين وتتلقَّين
رسائل من مكان ما. دعيني أرى، أين هو الآن؟ لقد نسيت تمامًا."
"في الهند لا يزال. أيمكن أن لا تعرف عنه، وكيف أصبح رجلًا
مهمًّا؟ كثيرًا ما تُكتَب عنه فِقْرات في صحيفتنا. آخرها كان عن ترجمة ما من
الهندوستانية كان ينجزها. وسيعود من أجلي."
"أشكُّ في ذلك كثيرًا. قال لَفِل إنه سيتزوجك فورًا."
"حقًّا، لن يفعل."
"حسنًا. لا أريد أن أُكرِهك على فعل أي شيء رغمًا عنك يا
أغاثا، ولكن هذا هو الموضوع. تعلمين أنني متأخر في أعمالي قليلًا مع لَفِل، لا شيء
خطير إن منحني الوقت، بيْد أنني أردت أن أتحرَّر منه تمامًا حتى أرحل إلى
أستراليا."
"أستراليا!"
"أجل. ما من شيء يمكن عمله هنا. لا أعرف كيف ستكون أحوال
العمل هنا، لا يمكنني التفكير في ذلك. لكن لا عليك من ذلك، هذه هي الفكرة: إذا تزوَّجتِ
المزارع لَفِل، سيعرض عليَّ التخلُّص من الدَّيْن، ولن يكون هناك أيُّ تأخير عن
زواجي، باختصار، أستطيع الرحيل. أقصد، ستكون هناك نهاية لذلك."
"ماذا؟ وتتركني في البيت وحدي؟"
"أجل، ولكن امرأة متزوجة حتمًا. إنك ترين أنَّ الأطفال
يكبرون. جون في الثانية عشرة ونثانيَل في العاشرة، والفتيات يكبرن بسرعة، وعندما
أتزوج ثانية سيكون من الصعب عليك رعاية البيت. في الواقع، يجب أن أقلِّل من عدد
أفراد العائلة قدر الإمكان. إذا أمكنك الاقتناع والتفكير في المزارع لَفِل كزوج،
فلِمَ لا، سيكون ذلك مصدر ارتياح كبير لي بعد أن حمَّلت نفسي عناء تربيتك والصَّرف
عليك. إن تمكَّنتُ بهذه الطريقة من التَّخلُّص من ديْن لَفِل سيكون في يدي مبلغ
جيد."
قالت
أغاثا وهي تذرف دموعها: "لكنَّ أُوزْوُلْد سيكون أغنى من السيد لَفِل."
"أجل، أجل. لكنَّ أُوزْوُلْد ليس هنا، ومن الممكن ألا يكون
هنا. يا لك من حمقاء!"
"ولكنه سيأتي، وقريبًا، ومعه ألف ومئة يكسبها في العام."
"أدعو السماء أن يأتي. أنا على يقين بأنه سيحظى بك."
قالت
مبتهجة: "عِدني يا عمي، ألا تفعل؟ إذا أتى ومعه الكثير من المال قبل مغادرتك،
سيتزوجني أنا وليس أيَّة واحدة أخرى."
"أجل، إن أتى. ولكن يا أغاثا كفى هراءً. فقط فكِّري فيما قلته
لك. وعلى أيَّة حال كوني مهذَّبة مع المزارع لَفِل. إذا جاء هذا الرجل وِينْوُد
وتزوجك فسيكون ذلك أمرًا مختلفًا جدًّا. أهتمُّ الآن لأني رأيت شيئًا عنه وعن
أعماله في الصحف، ولكنَّه أصبح الآن سيِّدًا محترمًا ولن ينحني لفتاة مثلك. لذلك
من الأفضل أن تأخذي من هو على أهبة الاستعداد، فحبيبة العجوز تَسعَد كثيرًا كما
يقول الناس. سنسافر بعد تسعة أشهر، حذارِ! لقد قرَّرتُ ذلك. ويجب أن تكوني امرأة
متزوجة قبل ذلك الوقت، وتتمنَّي لنا رحلة سعيدة وأنت تتأبَّطين ذراع زوجك."
"تلك الذراع العجوز لن تستطيع مساندتي."
"وإذا لم توافقي عليه، ستأخذين بضع مئات من الجنيهات من جيبي،
وستفسدين فُرَصي كُلِّيًّا، هذا هو الوضع بالمختصر المفيد."
قال
الرجل المبتهج ذلك وأدار لها ظهره، وغرقت خطواته في طنين الطاحونة.
لم
يُقَل لها شيءٌ واضحٌ في هذا الشأن مرَّةً أخرى حينًا من الوقت. كان العجوز الخدوم
يحوم حولها، ولكنه حين عرف نتيجة المقابلة بينها وبين عمِّها، كفَّ عن الاندفاع
وتعريض خطبته للخطر. بيْد أنَّه ذات نهار لم يتمالك نفسه عن القول:
"آغي، متى أستطيع التَّحدَّث إليك بشأن أمر جادّ؟"
أجابت
فورًا: "الأسبوع المقبل."
لم يكن
مهيَّأً لردٍّ سريع كهذا، وقد أربكه بقدر ما أسعده. لو كان يعرف سببه لربَّما
اختلف شعوره. وبكل ما كانت أغاثا قادرةً عليه من براعة أنثوية، كتبت بأقصى سرعة
لأُوزْوُلْد بعد محادثتها عمَّها، وأعلمته بالورطة. في نهاية هذا الأسبوع، إن أتى
ردُّه بدقَّته المعتادة، فسيكون جوابه أنه مؤكَّدٌ سيأتي. محصَّنةً برسالته اعتقدت
أنها تستطيع أن تقابل العجوز. أمَّا أُوزْوُلْد
فلم ترْتَب في أمره. وما من سبب يجعلها تفعل ذلك. جاءت الرسالة عاجلًا.
كانت قصيرة ولطيفة ومركَّزة. شكَّلت الأحداث نفسها على نحو محظوظ للغاية فكان
قادرًا على القول بأنه سيعود ويتزوجها قبل اليوم الموعود لرحيل العائلة إلى
كوينزلاند.
رقصت
طَرَبًا. ولكن كانت هناك حاشية مفادها أن تُبقي هذا الوعد سرًّا في هذا الوقت، إن
كان ذلك يريحها، وأن لا تصبح نيَّاته حديثًا عامًّا في كلوتون. كانت أغاثا تعرف
أنه شابٌّ أرستقراطي صاعد، وأدركت فورًا أنَّ ما قاله مناسب.
وهكذا
قابلت السيد لَفِل برفض صريح وبسيط جعل عمَّها يستشيط غضبًا، ولم يهدِّئ اعترافُها
اللاحق بوصول الرسالة من غضبه إلا قليلًا. قال إنَّ السيد لَفِل سيطالبه بالدَّيْن
إن لم تتدبَّر أمرها بإرضائه بعضَ الوقت.
قالت
أغاثا: "لا أودُّ إرضاءه، من الخطأ تشجيعه إن كنت لا أقصد ذلك."
"هلَّا تصرفتِ معه كما ينصحك الكاهن؟"
الكاهن!
تلك فكرة جديدة، وغير متوقَّعة من عمِّها.
قالت:
"سأوافق على نصائح السيد ديْفِدز بشأن سلوكي اليومي وحسب قبل مجيء أُوزْوُلْد
ولا شيء أكثر. أي أنني سأفعل ذلك إن كنتَ متيقِّنًا من أنه رجل صالح ويخشى
الرَّبَّ ويصون وصاياه."
"السيد ديْفِدز يخشى الرَّبَّ دون ريب، لأنَّه ما جرؤ قطّ على
ذكر اسمه بطريقة مُهينة خارج الكنيسة، وفيما يخص الوصايا فإنه معروفٌ عنه كيف أقسم
على إبعاد مُرمِّمي الكنيسة عن المذبح."
"عمَّاه، أنت دائمًا ما تسخر عندما أكون جادَّة."
"حسنًا حسنًا، على أيَّة حال نصيحته في مسألة من هذا النوع
جيدة."
سألت
بِحيرة: "كيف ترى أطلب مشورته؟ وأنت كثيرًا ما تتحدَّث عنه باستخفاف؟"
قال
همفري برغبة في تفادي السؤال محسوسة على نحو ضعيف: "أوه، حسنًا. أتحدَّث عنه
بفظاظة مرَّةً بين حين وآخر، ولكنني قد أكون مخطئًا. هل ستذهبين؟"
قالت
بتخاذل: "أجل، لا أمانع."
عندما
بلغت أغاثا طاولة الكاهن، بدأت سرد قصتها بتحفُّظ، ولم تقُل شيئًا عن مراسلتها
أُوزْوُلْد، بيْد أنَّ توقًا شديدًا لإيجاد صديق مقرَّب دفعها إلى الانغماس في
أحاسيسها على نحوٍ أكثر مما كانت تقصد، وفي النهاية أخذت تبكي. لكنَّ الكاهن
اللطيف بقي باردًا جدًّا، والسِّرُّ يكمن في أنَّ قلبه كان مشغولًا قليلًا باتجاهٍ
آخر هو الأقرب، اتجاهٍ، ربَّما، لم يكن في تواؤم كبير واهتمامات أغاثا.
قال
لها: "إذن الصعوبة هي كيف تتصرفين في أثناء هذا الوقت من محاولة انتظار السيد
وِينْوُد حتى ترضي جميع الأطراف حولك ولا تسبِّبي أذًى لأحد."
نشجت
أغاثا متعجِّبةً كيف يمكنه أن يدرك وضعها بهذه السهولة: "أجل يا سيدي، هو
كذلك، وعمِّي يريد أن يرحل إلى أستراليا."
قال
الكاهن: "ثمَّة شيء واحد أكيد؛ يجب أن لا تجرحي مشاعر السيد لَفِل. رجل حسَّاس
على نحو عجيب، رجل أحترمه كثيرًا كمتديِّن صالح."
"أحقًّا يا سيدي؟"
"حقًّا. إخلاصه استثنائي."
"بلى، في المغازلة."
"الفكرة هي: أن تعاملي السيد لَفِل بلطف بالغ كطفل! الحبُّ
عندما يُعارَض، ولا سيَّما حبَّ رجل عجوز، يزداد قوة. تحلَّي بالحكمة في منحه
تشجيعًا ظاهريًّا ومن ثمَّ اتركي مشاعره تُستنفَد وتتلاشى من نفسها."
"كيف أفعل ذلك؟ النصيحة سهلة جدًّا."
"بلا شك، ليس بالتَّصرُّف على نحو غير صادق. أقلتِ إنَّ حبيبك
سيعود حتمًا قبل أن يغادر عمُّك إنكلترا؟"
"أعلم أنه سيفعل ذلك."
"إذن هدِّئي السيد لَفِل العجوز بهذه الطريقة: أخبريه بأنك
ستتزوجينه عندما يقرِّر عمُّك الرحيل، إذا لم يأت وِينْوُد قبل ذلك الحين. ذلك
سيُرضي السيد لَفِل كثيرًا، لأنه لا يتوقَّع مطلقًا أن يعود أُوزْوُلْد، وسترين
كيف ستتوقَّف ملاحقته إيَّاكِ فورًا."
قالت
أغاثا حالًا: "أجل، أوافق على ذلك."
لقد
تراجع السيد ديْفِدز عن إضافة أنه هو أيضًا لا يتوقَّع أن يأتي أُوزْوُلْد، وهكذا
جاءت نصيحته. وتراجعت أغاثا من جانبها عن ذكر أسبابها الوجيهة لتوقُّعاتها
المعاكسة، وهكذا جاءت موافقتها. لولا الرسالة الأخيرة لربَّما حتى ما تملكه من ثقة
ما جرؤ على الحيلولة دون محاصرتها في زاوية على هذا النحو الصريح.
قال
الكاهن متهرِّبًا: "سيكون جيِّدًا أيضًا أن تكتبي ملحوظة صغيرة إلى السيد
لَفِل تقولين فيها إنك موافقة على نصيحتي."
"لا أحبُّ أن أكتب إليه."
"لا ضرر في الكتابة. (إذا لم يأت السيد وِينْوُد سأتزوجك.)
سيسعد السيد لَفِل المسكين معتقدًا أنَّ أُوزْوُلْد لن يأتي، وستسعدين وأنت تعرفين
أنه سيأتي، وسيسعد عمُّك لأنه لا يبالي بمن سيتزوَّجك من الرجلين الثَّريَّين
ويخلِّصه من متاعبه. ثم، إذا شاءت الإرادة الإلهية ستُترَكين في سلام. هاك قلمًا
ومحبرة، يمكنك فعل ذلك فورًا."
وهكذا
مستسلمةً للإغراء، كتبت أغاثا الملحوظة بيدٍ مرتعشة. عمومًا تبدو الملحوظة خطةً
استراتيجيَّةً جيِّدة لوضعها الحاضر. أخذ السيد ديفِدز الملحوظة، في أقل تقدير، كمَن
لا يرغب في أخذها، ثم وضعها على رفِّ الموقد.
قالت
آغي وهي تنظر بحزن إلى ملحوظتها ويخامرها شعور طفيف برغبتها في استعادتها:
"سأرسلها إليه عن طريق أحد الصبية."
قال
مستشارها اللطيف: "أوه، لا ليس ضروريًّا." قرع الجرس وجاء الخادم
وأُرسلت الملحوظة في لمح البصر.
عندما
خرجت أغاثا إلى الهواء الطلق استعادت ثقتها، وبتلذُّذ ماكر فكَّرت كيف أنها تخدع
مضطهديها بالاحتفاظ بسرِّ نيَّة أُوزْوُلْد في العودة سريعًا. لو أنهم يعلمون أيُّ
أساس متين يقوم عليه إيمانها بما يَعُدُّونه مجرد حدث بعيد الاحتمال، فأيُّ حياة
سيرغمونها عليها! وكيف سيزعج العجوز عمَّها بالدفع! وأيُّ إرباك عام سيحدث! كانت
نصيحة السيد ديفِدز حصيفةً جدًّا، فكَّرت، وسرَّها أنْ زارته.
أتى
العجوز لَفِل في أصيل ذلك اليوم نفسه. كان مسرورًا، وراح يرقص على فواصل من رقصة
المزمار وهو يدخل الغرفة. كان الصبي الهَرِم مفعمًا بالحيوية إلى حدِّ أنَّ أغاثا
كانت قلقة نوعًا ما حيال تهوُّرها عندما فكَّرت في السبب الرئيس لمرحه، آملةً أن
تحصل منه على شيء مكتوب أيضًا كما حصل هو عليه منها، وأن لا يتعرَّض وعدها للعبث
في أيِّ حال من الأحوال وأن لا تُتجاهل الظروف.
قالت
بقلق: "أقبلك بشرط فقط، حذارِ، وهذا مفهوم بوضوح."
قال
المزارع: "بلى، بلى. لم أعد شابًّا كما كنت يا عزيزتي الصغيرة، وعلى المتسوِّل
أن لا يطمع في الاختيار. حسب تقديري، هل سيكون ذلك في الأوَّل من نوفمبر؟"
"في الواقع لن يكون أبدًا."
"ولكنَّه إن لم يأت، هل سيحلُّ اليوم في الأوَّل من
نوفمبر؟"
أومأت
برأسها قليلًا.
قال
العجوز لعمِّ آغي على انفراد، وقد سمعته آغي بوضوح: "كِك. أعتقد أنها
تحبني!"
كانت
هناك طفلة في الغرفة بلا مبالاة ترسم على لوح. في هذه اللحظة أخذت أغاثا اللوح من
الطفلة وخربشت شيئًا عليه.
قالت
بصوت لعوب غير مكترث: "يجب أن تسمح لي أن تكتب اسمك هنا وحسب."
قال
لَفِل وهو ينظر ويقرأ: "ما الخطب؟ (إذا جاء أُوزْوُلْد وِينْوُد ليتزوج أغاثا
بولن قبل نوفمبر، أوافق أن أمنحها له دون اعتراض.) حسنًا، ذلك جميل لسيدة صغيرة
طولها أقل من ستة أقدام، بالفعل، هييي هييي!" مرَّر اللوح للطَّحَّان الذي
قرأ المكتوب وأعاده إليه.
قالت
متملِّقةً: "وقِّع، من باب المجاملة وحسب."
"لا أرى لماذا.."
"أفعل ذلك لأختبر ثقتك بي، والآن أكتشف أنك لا تثق. ألا تعتقد
أنني قد أمحو ما كتبت فورًا؟ آه، ربَّما يمكنني أن أكون عنيدة أيضًا!"
وهكذا
كتب اسمه. "والآن فعلتها وأظهرت ثقتي،" قال ورفع أصابعه فورًا وكأنه
يودّ مسح اسمه مرة أخرى.
ولكنها
بيدين تحرَّكتا بسرعة البرق خطفت اللوح وطارت ركضًا إلى الطابق العلوي، وأقفلت على
اللوح في صندوقها ثم نزلت مرة أخرى.
قال
النبيل العجوز: "يا للهول! ذلك تمرين قاس."
قالت: "أوه،
إنها مجرد نزوة، مجرد مذكِّرة، لقد قطعت لك وعدًا، ولكنَّك لم تقطع لي
وعدًا."
صاحت
الطفلة: "أريد لوحي."
قالت
أغاثا مهدِّئةً إيَّاها: "سأبتاع لكِ آخر جديدًا يا عزيزتي."
عندما
غادرت الغرفة تحدَّث لَفِل العجوز إلى عمِّها بشيء من القلق عن هذ السلوك الصبياني
الذي أزعجه هذه اللحظة.
قال
الطَّحَّان بولِن مطمئِنًا: "أوه، لا عليك، إنَّه مجرَّد لهو، مجرَّد لهو.
إنها مجرَّد طفلة بالفطرة، حتى الآن، وفعلت ذلك لتغيظك فقط. لقد سمعت همسك لي بأنك
تعتقد أنها تحبُّك، وتلك كانت طريقتها اللَّعوب في معاقبتك على ثقتك. عليك أن
تتحمَّل هذه الإزعاجات أيُّها المزارع. بالنظر إلى الفرق بين سنَّيْكما، من المؤكد
أنها تلهو بهذه المقالب. ستحبُّ ذلك مع الوقت."
"أجل، أجل، مؤكد، سأحبُّ ذلك! طالما كنتُ متحمِّسًا يا
بولِن!" وأصبح الخاطب مرِحًا مرَّةً أخرى.
VII
غدت
حياتها الآن أكثر بهجة. يعاملها العجوز معاملة حسنة، وهو تقريبًا صامت بشأن
الموضوع الأقرب إلى قلبه. كانت مضطرة إلى أن تكون متخفِّية تمامًا بشأن تلقي رسائل
من أُوزْوُلْد، وعلى هذا الأساس كان لزامًا عليها مقابلة ساعي البريد أيًّا كان
الطقس. أُبقيت هذه المعلومات بسهولة في سريَّة عن الناس خارج البيت، بيْد أنَّ
المهمة الأصعب كانت في إخفاء تحركاتها عن عمِّها. وجلب أحد الأيام فشلًا ذريعًا.
"عجبًا! لِمَ أنت في الخارج يا أغاثا؟"
قال
عندما صادفها في الطريق فجرًا ذات صباح ضبابي. كانت في الواقع تقرأ رسالة تلقَّتها
توًّا، ولم يكن ثمَّة سبيل لإخفاء الحقيقة.
"خرجت من أجل رسالة من أُوزْوُلْد."
"حسنًا، ولكنَّ ذلك لن يفيد. لأنه لم يأت لأجلك، يجب ألا
تفكِّري فيه بعد الآن."
"ولكنه سيأتي خلال ستة أسابيع. أخبرني كلَّ شيء في هذه
الرسالة بعينها."
قال
عمُّها متشكِّكًا: "ماذا، أحقًّا سيتزوجك؟"
"بلى، مؤكد."
"ولكنني سمعت أنه أصبح ميسورًا على نحو رائع."
"حتمًا هو كذلك، لذلك هو آتٍ. سيوافق فورًا على أن يكون كفيلك
بشأن ديْنك للسيد لَفِل."
"هل قال ذلك؟"
"ليس بعد، ولكنَّه سيفعل."
"سأصدِّق ذلك عندما أراه ويخبرني به. غريبٌ جدًّا إن كان ينوي
ذلك، فهو لم يكتب سطرًا إليَّ مطلقًا."
همهمت:
"اعتقدنا أنك سترغمني على الزواج بالآخر فورًا لو كتب إليك."
"لن أفعل إن عاد ثريًّا. لكنَّها بالأحرى قصة الديك والثور،
ولأنه لم يقرِّر حتى الآن لا يمكنني القول بأنني أؤيده. أغاثا، من الأفضل أن لا
تقولي كلمة واحدة للسيد لَفِل بشأن هذه الرسائل، ستكون الأوضاع غير لطيفة إذا ما
سمع عن هذا السلوك. ينبغي أن تلتزمي بوعدك. أُوزْوُلْد ليس جديرًا بالتصديق، أخشى
ذلك. لكنني سأكون عادلًا. إذا عاد وأثبت دخله سيتزوجك دون شك، سأسمح بذلك، وأنا
والعجوز سنفعل ما بوسعنا. عدا ذلك، اِبقي وعد الرسالة سرًّا."
"هذا ما سيحدث يا عمِّي. أُوزْوُلْد آتٍ."
"لا تكتبي إليه. لَفِل سيعلم بالأمر، وسيكون قاسيًا عليك. لا
يجدر بك أن تبعثي رسائل حبّ إلى رجل وكأنَّ شيئًا لن يحدث بينك وبين رجل آخر.
الأوَّل من نوفمبر يزداد قربًا كل يوم. وتيقَّني من أن تُبقي ذلك سرًّا عن لَفِل
لأجل مصلحتك."
كلَّما
أدركت أغاثا بوضوح أكبر الفرقَ الكبير في التَّوقُّع بينها وبين الطرف الآخر في
الاتفاقية، اشتدَّ ذعرها. لم تحسب أن يحدث ضيق في مسار الأحداث كهذا الذي حدث. بدا
وكأنَّ هناك تأثيرًا خبيثًا يفعل فَعْلته من دون تدخُّلٍ بشريٍّ مرئي. الوقت الحرج
يقترب، ومع أنه ما من تحضيرات ظاهرية قد أُعدَّت لحفل الزواج، بدا جليًّا للجميع
أنَّ لَفِل كان يصبغ بيته ويعدَّه لاستقبال شخص ما. صنع مرجة خضراء حيث كانت هناك
زاوية للنفايات، وابتاع أثاثًا لغرفة امرأة. كان الرعب الأكبر حينما أصرَّ ذات يوم
أن تمسك بذراعه، ولمَّا لم يكن هناك ما يمكنها فعله وافقت، مع أنَّ نفورها كان لا
يُطاق. أحسَّت بالذراع النحيلة تحت كمِّه، نظرت إلى كتفيه الملتويتين، ورأت قدميه
كثيرتي العُقد فاقشعرَّ بدنها. ماذا سيحلُّ إن لم يأت أُوزْوُلْد، ووقت رحيل عمِّها
يدنو فعلًا؟ عندما وصلت البيت صعدت ركضًا إلى غرفتها.
لمَّا
تخفَّفت أغاثا من فزعها قليلًا نظرت من النافذة. كان الصبي الأصم جون الذي يساعد
في الطاحونة ينظر صوبها بهدوء، وسرى على وجهه اللطيف بصيص من الصداقة عندما وقع
نظره عليها. ذكَّرها ذلك بأنَّ لديها برغم كل شيء صديقًا ما قريبًا وحاضرًا الآن.
يعرف الفتى معرفة جيدة كيف مضت الأحداث في حياة أغاثا، وكان على استعداد دومًا لأن
يبذل من أجلها ما بوسعه. شعرت أغاثا أنها أكثر قوة وقرَّرت أن تصمد.
VIII
يا للهول!
كم كانت قلقة! بقي في الواقع عشرة أيام فقط على الأوَّل من نوفمبر وما من رسالة
جديدة من أُوزْوُلْد.
تزوَّج
عمُّها، وأصبحت فرانسِس في البيت، واتُّخذت الخطوات الأولية للهجرة إلى كوينزلاند.
حصلت أغاثا على الصُّحف خلسةً، قرأت أخبار السفن الهندية حتى آلمتها عيناها، ولكن
دون فائدة، لأنها لا تعرف شيئًا سواءٌ عن المسار أو عن السفينة التي سيعود على
متنها أُوزْوُلْد. لم يذكر شيئًا آخر غير الشهر الذي سيأتي فيه، وما من طريقة
لديها لجعل تلك المعلومة الوحيدة طريقة للحصول على معلومات أكثر.
قال
المزارع العجوز: "خلال عشرة أيام يا أغاثا لن يكون هناك أي مظهر أو ضجة من أي
نوع، سيكون حفل الزفاف خاصًّا جدًّا، تقديرًا لمشاعرك ورغباتك. سنتجه إلى الكنيسة
وكأننا نخرج في نزهة صباحية، ولن يكون هناك أحد يزعجك. توِيْدَلْدِي!" رفع
ذراعه وقاطعها بعصاه وكأنه يعزف على الكمان، وراح في الوقت نفسه يَثِب مرحًا.
قالت
متلعثمةً وهي ترجف: "سيأتي وحينها لن أتمكَّن من الزواج بك، حتى لَـ-لَـ-لو
كنت أتمنى ذلك بشدَّة. لقد وعدته ويجب أن أتزوجه وأنت وافقت على ذلك."
قال
المزارع لَفِل بلطف: "بلى، بلى، ولكن هذا سوء حظ لا ينبغي أن تخشيه مطلقًا يا
عزيزتي، لن يأتي في هذا اليوم المتأخر ويُكرِهك على الزواج به برغم تمسُّكك بي.
ولكن، آه، هي مجرد مزحة لإغاظتي، أيتها المحتالة! عمُّك قال ذلك."
قال
عمُّها عندما صادف أن كانا وحدهما: "هيَّا يا أغاثا، ابتهجي ولا تفكِّري في
ذلك الشخص. تعلمين إنَّه أمر سخيف. طالما عرفنا أنه لن يأتي."
انقضى
اليوم. وجاء صباح اليوم السادس وأصيلُه ومساؤه. جاء اليوم الخامس وولَّى. لا شيء
عن أُوزْوُلْد بعد. يقطن أصدقاؤه الآن في لندن، وما من أحد غيرها في الأبرشية ممن
يمكنه مراسلته، أو أحد يمكنها أن تفضي إليه بمسألة حسَّاسة كهذه.
أقبل
المساء الذي يسبق يوم زفافها، وكانت تقف وحيدة في كآبة غرفة نومها تنظر إلى قطعة
الأرض أمام الطاحونة. رأت شكلًا أبيض يتحرَّك في الأسفل وعرفت فيه الصَّبيَّ
الطحان الأصم، صديقَها. دافعٌ مفاجئ بعث الحياة في أغاثا. خلال اليومين الأخيرين، كانت
تبذل محاولات يائسة لأن تحبَّ العجوز، ولأن تتزوجه دون مقاومة أخرى، لأنَّ
أُوزْوُلْد لم يأت، وذلك لأجل مصلحة عائلة عمِّها، الذي هي مدينة له بالكثير
حقًّا، بيْد أنَّ أبعد ما ذهبت إليه في محاولاتها هو أن لا تكرهه على نحوٍ قاطع.
والآن أتى التَّمرُّد من دون أن تطلبه. الصبي يعرف موضوعها، وبناءً على هذه
الحقيقة تصرَّفت. أومأت إليه وهي تهبط السلالم، وبينما كانا واقفين في مجرى الضوء
المتدفق من باب الطاحونة المفتوح، نقلت إليه توجيهاتها، تارةً بالإشارات وتارةً
بالكتابة، ذلك أنَّه كان من الصعب التَّحدُّث إليه دون أن يسمعهما أحد في أرجاء
المبنى كلِّه.
نظر
إلى وجهها نظرة تواطؤ، وقال إنه فهم الموضوع كلَّه، وعلى هذا افترقا.
كان
العجوز في منزلها ذلك المساء، وعندما همَّت بالانسحاب ودَّعها "في الوقت الحاضر"
بتبسُّمه عشرات المرات تبسُّمًا ذا مغزى. انصرفت أغاثا باكرًا تاركة إيَّاه هناك
لا يزال، وعندما بلغت غرفتها، وبدلًا من أن تنظر إلى الفستان الجديد الذي سترتديه
في الغد، عكفت على تحضير حُزْمة صغيرة من الملابس. ثم أطفأت الضوء، واستلقت على
السرير من دون أن تغيِّر ملابسها وراحت تنتظر وقتًا مدبَّرًا سلفًا.
في
أثناء ما بدا لها أنه جوف الليل، لكنها استنتجت أنه لا بدَّ أن يكون الوقت المتفق
عليه، الخامسة والنصف، بدرت ضجة طفيفة لحجر أُلقي على نافذتها. قفزت أغاثا، وضعت
قبعتها ومعطفها، وأخذت حزمتها ونزلت السلالم دون إضاءة. وفي الأسفل ارتدت حذاءها
طويل الرقبة وسارت وسط صرير الصراصير إلى الباب. لم يكن مقفلًا. كان عمُّها إذن قد
استيقظ كما توقَّعت تقريبًا، واستدعى ذلك مزيدًا من الحذر. كان الصباح مظلمًا
كمغارة، ما من نجمة مرئية، بيْد أنَّها لمَّا كانت تعرف الاتجاهات جيِّدًا مضت
بحذر وبصمت إلى باب الطاحونة. ضوء شاحب لمع في الداخل، وبرزت هيئة عربة الطاحونة
من دون هيئة الحصان المُعَدِّ لشدها به. لم تتمكَّن أغاثا من رؤية جون لحظة،
ولكنها استنتجت أنه في الطاحونة مع عمِّها الذي بدأ توًّا في هذه الدقيقة بتشغيل
العجلة استعدادًا لليوم. انزلقت فورًا داخل العربة تحت الغطاء ساحبة إليها بعض
الأكياس الفارغة كما جرى الاتفاق على ذلك سابقًا للتَّفادي من خطر اكتشافها. بعد
دقائق معدودة من الانتظار سمعت جون قادمًا من تحت الجدار حيث بدا أنه كان واقفًا
يراقبها وهي تدخل بأمان، ركب في المقدمة وقاد العربة بسرعة المشي.
كانت
خطتها تقوم بناء على تفاصيل أعمال الطاحونة الآتية: كان العرف المعتاد أن يعمل جون
وشابٌّ آخر في الصباح الباكر ثلاثة أيام في الأسبوع، يأخذ كل منهما حصانًا وعربة
مغطاة ويذهبان في جهات مختلفة لخدمة الزبائن الذين يبعدون أميالًا عدَّة، وتكون
العربات مهيأة منذ الليلة الفائتة. كل ما طلبته من جون هذا الصباح أن يأخذها إلى
محطة سكة الحديد التي تبعد زُهاء عشرة أميال، حيث يمكنها أن تنتظر بأمان قطارًا
آتيًا.
كيف
سيتصرَّف جون عندما يعود، ماذا سيقول، كيف سيجد عذرًا لنفسه، كانت تفكِّر والعربة
تهرول بهما.
جون!
قالت
قاصدة سؤاله عن هذه الأشياء، ولكنَّه لا يسمعها. من شدة ارتباكها وإرهاقها من
ليلتها المؤرِّقة، كانت غير قادرة على التفكير باطِّرادٍ في أي أمر. بيْد أنَّ
راحة اكتشافها أنَّ عمَّها لم ينظر داخل العربة بعثت فيها هدوءًا لذيذًا. وبينما
كانت تطالع السماء الرمادية المظلمة من خلال الفتحة المثلَّثة بين الستائر في
الجزء الأمامي من الغطاء وذراع جون تبرز من بين إحدى طياته مبيِّنةً مكان جلوسه في
الخارج، غطَّت في النوم.
استيقظت
بعد استراحة قصيرة، كل شيء كان مثلما هو، والعربة تندفع وتندفع. كان هناك شِقٌّ غامق
بين الستائر في الأمام، وبعد تعجُّبها بعض الشيء من أنَّ جون لم يكلِّف نفسه عناء
معرفة ما إذا كانت مرتاحة، غفت مجدَّدًا. وهكذا بقيت أغاثا حتى استعادت وعيها
بوضوح عند توقُّف العربة. أفاقت، وحينما نظرت فورًا من خلال الفتحة الصغيرة في
الخلف أدركت في الفجر المعتم أنهما يقفلان، وفي اللحظة التالية كان الحصان يواصل
عدوه عائدًا.
صاحت
وقفزت وسحبت الستارة التي تفصلها عن جون: "جون ماذا تفعل؟"
لم
يلتفت جون.
فكَّرت:
"كم هو أصمُّ على نحو مخيف! وكم يبدو غريبًا من الخلف، ويترجَّح للأمام وكأنه
نائم. شعره ببياض الثلج من الطحين، ألا ينظفه أبدًا؟"
زحفت
فوق الأكياس وصفعته على كتفه. عندها التفت جون.
"هيي.. هيي يا عزيزتي!"
قال
النبيل العجوز المبتهج، ورطوبة عينه المُسِنَّة تلمع في الضوء البازغ وهو يلتفت
مطالعًا وجهها المرعوب.
"لا بأس، أنا جون، وأمنحك صباحًا جميلًا ينعشك للمهام الرائعة
اليوم، والآن سنعود للاحتفال.. هيي هيي!"
في هذه
المناسبة المثيرة للاهتمام، كان يرتدي ملابس طحَّان، وقد تمكَّن من لعب دور جون في
الحدث بأخذه العربة الثانية والحصان الثاني ومتوقِّعًا الساعة التي يناديها فيها
جون الحقيقي.
تراجعت
أغاثا وغاصت في الخلف. كيف اكتشف خطة الهروب بهذه السهولة! هو، عجوز وغير شكَّاك بأي
حال من الأحوال؟! ولكن أي حلٍّ يفيد! تحطَّم الأمل وانتهى تمرُّدها. أفاقت أغاثا
من أفكارها بتوقُّف آخر للحصان وكانوا قد صاروا عند باب الطاحونة مرة أخرى.
أدركت
بِوَهن صوت عمِّها وهو يتحدَّث إليها غاضبًا عندما كان المزارع العجوز يمدّ يده
إليها مساعدًا إيَّاها على التَّرجُّل من العربة، وسمعت المزارع يردُّ مغتبطًا
بأنَّ الفتياتِ يبقين فتياتٍ ولهنَّ نزواتهن، وأنَّ الأمر غير مهم، وأنها كانت
لفتة لطيفة في هذا الصباح الميمون. أمَّا هو، فلم يجد متعةً في حياته كلِّها تضاهي
متعة مزحة كهذه لم تسبِّب أيَّ أذى. ثم خطر ببالها أن تدخل إلى البيت، وتتناول بعض
الطعام وترتدي فستانها استعدادًا للزواج بالسيد لَفِل، كما وعدت، في ذلك اليوم.
فعلت
ذلك كلَّه، وفي تمام الحادية عشرة أصبحت زوجة العجوز.
بينما
كانت أغاثا تضع قبعتها في عتمة ذلك المساء، لأنها لم تشأ أن تضيئ الشمعةُ وجهَها
المروَّع، سمعت حفيفًا عند الباب. التفتت أغاثا. كانت زوجة عمِّها فرانسس تنظر إلى
الغرفة، واستطاعت أغاثا أن تميِّز على جسد عمتها[3] المعطفَ الأزرق
الذي قرَّر مصيرها.
كان
المشهد أكبر من احتمالها. إن كان هذا هو الأثر المقصود كما يبدو على الأرجح، فإنَّ
الخدعة نجحت حتمًا. لم تنبس فرانسس بكلمة.
ثم، من
دون أن يبدو عليها أيُّ قدر من الأسف أو الحزن أو الدَّهَش مما كشفه الفعل، قالت
أغاثا بسخرية هادئة: "وإذن فقد أخبرتِ السيد لَفِل بهروبي هذا الصباح،
ومهَّدت له الطريق؟ سيكون مسلِّيًا أن أعرف كيف اكتشفتِ خطتي، لأنه لم يكن ليفعل
ذلك بنفسه مطلقًا، حبيبي العجوز المسكين."
أجابت
عمتها بلطف: "أوه، كنت شاهدة على خطتك مع جون الليلة الماضية، هذا كل ما في
الأمر يا عزيزتي. ثم ذكرتُها للسيد لَفِل وساعدته على مزحته لمنعك... أوَتذكرين
تلك العربة يا أغاثا وكيف تمكَّنتِ من استغلال اسمي في تلك المناسبة منذ
سنوات؟"
"بلى، وهل سمعت حديثنا تلك الليلة؟ طالما تخيَّلت
العكس."
"سمعته كلَّه. كان مسلِّيًا لك، ماذا تعتقدين أنه كان لي؟
مسلِّيًا أيضًا؟ أن أخسر الرجل الذي عشقت وأصبح زوجة رجل لا أعيره ذرَّة
اهتمام؟"
"آه لا. وكم كافحت لانتزاعه مني يا عمتي العزيزة!"
"وفعلتُ ذلك أيضًا."
"ليس تمامًا. إنهما الكاهن والقدر."
"لقد تفضَّل الكاهن ديْفِدز بإقناعك لأنني تفضَّلت بإقناعه
وأقنعت عمَّك بأن يرسلك إليه. السيد ديفِدز معجب قديم بي. والآن ألا ترين عجلةً
داخل عجلة يا أغاثا؟"
عند
هذا الحد لم يعد الهدوء محتملًا من طرف أغاثا تقريبًا، لكنها تمكَّنت من القول:
"دون شك أخفيتِ عني رسائل أُوزْوُلْد إليّ؟"
قالت
فرانسس: "كلَّا، لم أفعل ذلك. ولكنني أخبرت أُوزْوُلْد، الذي جاء إلى
ساوثامبتن الليلة الماضية وزارنا هنا باستعجال كبير في السابعة هذا الصباح، بأنك
خرجت في نزهة باكرة مع الرجل الذي ستتزوجينه اليوم، وأنَّ بقاءه قد يسبِّب رَبْكًا.
بدا شاحبًا جدًّا وغادر مرة أخرى فورًا ليتمكَّن من اللحاق بالقطار التالي المتجه
إلى لندن، وقال شيئًا عن مرض شديد انتابه وحال بينه وبين الإبحار في الوقت الموعود
الذي قصده في الاثني عشر شهرًا الأخيرة."
مع
أنَّ هذه الأخبار كادت تذبح العروس، لم تكن لتجفل في حضور غريمتها. مهدئةً جسدها
المرتعش قالت مبتسمة: "تلك المعلومات مثيرة للاهتمام على نحو عميق، ولكنها لا
تهمُّني على الإطلاق، لأنني حبيبة زوجي الآن كما تعلمين، ولن أجعل الرجل العزيز
يغار لأجل أي شيء في العالم."
ثم
هبطت السلالم واتجهت إلى حيث الكرسي.
[2] مؤرّخ وسياسي بريطاني لعب
دورًا كبيرًا ومثيرًا للجدل في إصلاح التعليم في الهند إبَّان الاستعمار البريطاني
لها.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)