الثلاثاء، 19 يوليو 2016

مكالمة هاتفية




للكاتبة الأمريكية دوروثي باركر(Dorothy Parker (1893-1967
ترجمة زوينة آل تويّه

أرجوك يا إلهي اجعله يهاتفني الآن. إلهي العزيز، اجعله يهاتفني الآن. لن أسألك أيّ شيء آخر. بصدق لن أفعل. إنني لا أطلب الكثير. سيكون شيئا ضئيلا بالنسبة إليك يا إلهي، شيئا ضئيلا ضئيلا. اجعله يهاتفني وحسب. أرجوك يا إلهي، أرجوك، أرجوك، أرجوك.
لو أنني لا أفكّر بالأمر، فقد يرنّ الهاتف. يفعل ذلك أحيانًا. لو أنني أستطيع التفكير في أي شيء آخر، لو أنني أستطيع التفكير في أي شيء آخر. لو أنني أعدّ حتى الخمسمئة بإضافة خمسة في كل مرة، قد يرنّ في أثناء ذلك. سأعدّ ببطء. لن أغشّ. وإذا رنّ عند بلوغي الثلاثمئة فلن أتوقف، لن أجيب حتى أصل إلى الخمسمئة. خمسة، عشرة، خمسة عشر، عشرون، خمسة وعشرون، ثلاثون، ثلاثة وخمسون، أربعون، خمسة وأربعون، خمسون.... أرجوك رنّ أرجوك.
هذه آخر مرة أنظر فيها إلى الساعة. لن أنظر إليها ثانيةً. إنها السابعة وعشر دقائق. قال إنه سيهاتفني في الخامسة. "سأهاتفك في الخامسة يا حبيبتي". أعتقد أنه هنا قال "حبيبتي". إنني متأكدة تقريبًا أنه قالها هنا. أعرف أنه دعاني "حبيبتي" مرتين، وكانت المرة الثانية عندما قال وداعًا. "وداعًا يا حبيبتي". كان مشغولا، ولم يكن باستطاعته قول الكثير وهو في المكتب، لكنه قال لي "حبيبتي" مرتين. لم يكن سينزعج من مهاتفتي إياه. أعلم أنه لا ينبغي مواصلة مهاتفتهم، أعلم أنهم لا يحبون ذلك. عندما نفعل ذلك يعرفون أننا نفكّر فيهم ونريدهم، وذلك يجعلهم يكرهوننا. لكنني لم أحادثه منذ ثلاثة أيام، لا ليس منذ ثلاثة أيام. وكل ما فعلته أنني سألته عن حاله. كان ذلك تمامًا مثلما يهاتفه أي شخص آخر. لم يكن سينزعج من ذلك. لن يفكّر أنني أزعجه. قال: "لا، بالطبع إنك لا تزعجينني". وقال إنه سيهاتفني. لم أسأله ذلك، صدقًا لم أفعل. متأكدة أنني لم أفعل. لا أعتقد أنه سيقول أنه سيهاتفني ثم لا يفعل. أرجوك لا تدعه يفعل ذلك يا إلهي. أرجوك لا تدعه.
"سأهاتفك في الخامسة يا حبيبتي"، "وداعًا يا حبيبتي". كان مشغولا، وكان على عجلة من أمره، وكان هنالك أناس حوله، لكنه دعاني "حبيبتي" مرتين. ذلك لي، ذلك لي. لي ذلك حتى إن كنت لن أراه مرة أخرى أبدًا. أوه، لكن ذلك قليل جدّا. ذلك لا يكفي. لا شيء يكفي، إن كنت لن أراه مرة أخرى أبدًا. أرجوك دعني أراه مرة أخرى يا إلهي. أرجوك، أريده بشدّة. أريده بشدة. سأكون طيبة يا إلهي. سأحاول أن أكون أفضل، سأحاول. لو أنك تجعلني أراه مرةً أخرى، لو أنك تجعله يهاتفني. أوه، دعه يهاتفني الآن.
آه، لا تجعل صلواتي لك تبدو تافهة جدّا يا إلهي. إنك تتربّع هناك في الأعالي، شديد البياض ومسنًّا، والملائكة تحيط بك، والنجوم تنسلّ من حولك، وأنا آتي إليك بصلاة لأجل مكالمة هاتفية. آه، لا تضحك يا إلهي. أترى، إنك لا تعرف كيف أشعر. أنت آمِنٌ جدّا هناك في عرشك، والزرقة تُدوِّم تحتك. لا شيء يمكنه أن يلمسك، ما من أحد باستطاعته أن يلوي قلبك بين كفّيه. إنها معاناة يا إلهي، معاناة سيئة للغاية. ألن تساعدني؟ لأجل ابنك ساعدني. قلت إنك ستجيب أي طلب يُسأَل باسمه. أوه يا إلهي، باسم ابنك الوحيد الحبيب، يسوع المسيح، سيّدنا، دعه يهاتفني الآن.
يجب أن أوقف ذلك. يجب ألا أكون هكذا. اسمع. لنفترض أن شابًّا يقول أنه سيهاتف فتاة، ثم يحدث شيء ما ولا يفعل. أليس ذلك أمرًا فظيعًا، أليس كذلك؟ إنه يحدث حول العالم كلّه هذه اللحظة. أوه، وما يهمني ما يحدث حول العالم؟ لم لا يرنّ ذلك الهاتف؟ لم لا يرنّ، لم لا يرنّ؟ ألا ترنّ؟ آه، أرجوك، ألا تفعل؟ أيّها اللعين القبيح اللامع! سيؤذيك أن ترنّ، أليس كذلك؟ أوه، ذلك سيؤذيك. عليك اللعنة، سأنزع أسلاكك القذرة من الجدار، سأهشّم وجهك الأسود المتغطرس إلى نتفٍ صغيرة. عليك اللعنة، إلى الجحيم.
لا، لا، لا. يجب أن أتوقف. يجب أن أفكّر في شيء آخر. هذا ما سأفعله. سأضع الساعة في الغرفة الأخرى، وعندها لن أتمكّن من النظر إليها. إن كان عليّ أن أنظر إليها، سيكون عليّ أن أمشي إلى غرفة النوم، وسيكون ذلك شيئًا أفعله. ربمّا، قبل أن أنظر إليها مرة أخرى، سيهاتفني. سأكون لطيفة جدًّا معه لو هاتفني. وإذا قال إنه لن يتمكّن من رؤيتي الليلة سأقول: "لا عليك، لا بأس يا عزيزي. لا عليك، بالطبع لا بأس". سأكون مثلما قابلته أول مرة، ولعلّه سيحبني مرة أخرى. طالما كنت لطيفة في البداية. أوه، من السهل جدًّا أن نكون لطيفين مع الآخرين قبل أن نحبّهم.
أعتقد أنه ما زال يحبني قليلا. لم يكن ليقول لي "حبيبتي" مرتين اليوم لو لم يزل يحبني قليلا. لم ينته كل شيء إن كان ما يزال يحبني قليلا، حتى لو كان ذلك قليلا، بعض الشيء. أترى يا إلهي، لو أنك تدعه يهاتفني وحسب، لن أسألك أي شيء آخر. سأكون لطيفة معه، سأكون مرِحة، سأكون مثلما كنت وحسب، ومن ثمّ سيحبني مرة أخرى، وبعدها لن أسألك أي شيء آخر ثانيةً. ألا ترى يا إلهي؟ إذن ألن تجعله يهاتفني رجاءً؟ ألن تفعل أرجوك، أرجوك، أرجوك؟
هل تعاقبني يا إلهي لأنني كنت سيئة؟ أغاضبٌ مني لأني فعلت ذلك؟ أوه، لكن يا إلهي، ثمّة أناس سيئون كثيرون، ولن تكون قاسيًا عليّ أنا بالذات. ولم يكن الأمر سيّئًا، ما كان سيّئًا. لم أُلحق الأذى بأحد يا إلهي. تغدو الأمور سيئة فقط عندما نؤذي الناس. وأنا لم أُلحق الأذى بروحٍ واحدة، إنك تعرف ذلك. تعرف أن الأمر لم يكن سيّئًا، أليس كذلك يا إلهي؟ وإذن، ألن تدعه يهاتفني الآن؟
إن لم يهاتفني سأعرف أن الإله غاضب مني. سأعدّ حتى الخمسمئة بإضافة خمسة في كل مرة، وإن لم يهاتفني سأعرف أن الإله لن يساعدني مرة أخرى أبدًا. تلك ستكون الإشارة. خمسة، عشرة، خمسة عشر، عشرون، خمسة وعشرون، ثلاثون، خمسة وثلاثون، أربعون، خمسة وأربعون، خمسون، خمسة وخمسون... كان ذلك سيّئًا، أعلم أنه كان سيّئًا. لا بأس يا إلهي، فلترسلني إلى الجحيم. تعتقد أنك تخيفني بجحيمك، أليس كذلك؟ تعتقد أن جحيمك أسوأ من جحيمي.
لا يجب أن أفعل ذلك، لا يجب. لنفترض أنه سيهاتفني في وقت متأخر قليلا، ذلك أمر لا يجعلني هستيرية. لعلّه لن يهاتفني، لعلّه سيأتي رأسًا إلى هنا من دون مهاتفة. سيغضب إذا رآني أبكي. إنهم لا يحبون أن يرونا نبكي. إنه لا يبكي. أدعو ربّي أن يجعله يبكي. أتمنى لو أستطيع أن أجعله يبكي ويتمرّغ على الأرض ويحس قلبه مثقلا ومتضخّمًا ومتقيّحًا داخله. أتمنى لو أستطيع إيذاءه أذى جحيميّا.
إنه لا يتمنى لي ذلك. لا أظن أنه يعرف حتى ما أحسّ به. أتمنى لو يعرف من دون أن أخبره. إنهم لا يحبون أن نخبرهم أنهم يجعلوننا نبكي. لا يحبون أن نخبرهم أننا حزينات بسببهم. وإن فعلنا سيفكّرون أننا متملِّكات ومتطلِّبات. ثم يكرهوننا. يكرهوننا كلما قلنا شيئا نفكّر فيه في الواقع. علينا دائمًا أن نخترع ألعابًا صغيرة. أوه، اعتقدت أننا لسنا بحاجة إلى ذلك. اعتقدت أن هناك متسعًا لقول كل ما أعنيه. أظن أننا لا نستطيع ذلك مطلقًا. أظن أنه ما من شيء يتسع لذلك. أوه، لو أنه يهاتفني فقط، لن أخبره أنني كنت حزينة لأجله. إنهم يكرهون الأشخاص الحزانى. سأكون لطيفة جدّا ومرحة جدّا إلى حدّ أنه لن يملك إلا أن يحبني. لو أنه يهاتفني وحسب. لو أنه يهاتفني وحسب.
لعلّ هذا ما سيفعله. لعلّه قادم إلى هنا من دون أن يهاتفني. لعلّه في طريقه الآن. لعلّ شيئا حدث له. لا، لا شيء يمكن أن يحدث له. لا أستطيع تصوّر حدوث مكروهٍ له. لم أتصوره متعرّضًا لحادث دهس قط. لم أتخيله ممدّدًا بلا حراك وطويلا وميتًا قط. أتمنى لو كان ميتًا. تلك أمنية بشعة. تلك أمنية مبهجة. لو كان ميتًا لصار لي. لو كان ميتًا لما فكرت مطلقًا في الآن وفي الأسابيع القليلة الأخيرة. لتذكرت الأوقات السعيدة فقط. لكان كل شيء جميلا. أتمنى لو كان ميتًا. أتمنى لو كان ميتًا، ميتًا، ميتًا.
هذا سُخف. من السخف أن نتمنى موت الآخرين لمجرد أنهم لم يهاتفونا في اللحظة ذاتها التي قالوا أنهم سيهاتفوننا فيها. لعلّ الساعة سريعة. لا أعلم إن كانت صحيحة. لعلّه كان بالكاد يتأخر، وقد يكون ثمة ما جعله يتأخر قليلا. ربما كان عليه أن يبقى في مكتبه. ربما ذهب إلى البيت ليهاتفني من هناك ودخل أحدهم. لا يحب أن يهاتفني أمام الناس. لعلّه كان قلقًا، قليلا فقط، بعض الشيء، بشأن جعلي أنتظره. لعلّه تمنّى حتى لو أنني أهاتفه. أستطيع فعل ذلك. أستطيع مهاتفته.
لا يجب أن أفعل ذلك، لا يجب، لا يجب. أوه يا إلهي، أرجوك لا تدعني أهاتفه. أرجوك امنعني من فعل ذلك. أعرف يا إلهي جيّدا كما تعلم أنت أنه إن كان قلقًا بشأني لهاتفني أينما كان ومهما كان حوله من ناس. أرجوك دعني أعرف ذلك يا إلهي. لا أسألك أن تيسّر الأمر لي، لا تفعل ذلك، فقط دعني أعرف يا إلهي. لا تتركني أتمادى في الأمل. لا تتركني أقول أشياء مطمئِنة لنفسي. أرجوك لا تتركني آمُل يا إلهي العزيز. لا تفعل أرجوك.
لن أهاتفه. لن أهاتفه مرة أخرى ما حييت. ليتعفّن في الجحيم قبل أن أهاتفه. ليس عليك أن تمنحني القوة يا إلهي. لدي القوة. إن أرادني سيصل إليّ. يعرف أين أنا. يعرف أنني أنتظر هنا. إنه متأكدٌ تمامًا مني، متأكدٌ تمامًا. أتعجّب لماذا يكرهوننا بمجرد أن يكونوا متأكدين منّا. عليّ أن أفكر أنه سيكون لطيفًا جدًّا أن نكون متأكدين من الآخرين.  
سيكون من السهل مهاتفته. عندها سأعرف. ربما لن يكون من الحماقة فعل ذلك. ربما لن يكترث. ربما سيحب ذلك. ربما كان يحاول الوصول إليّ. أحيانا يحاول الناس ويحاولون أن يصلوا إلى بعضهم بعضًا عبر الهاتف ويقولون أن الرقم لا يجيب. لا أقول ذلك فقط لأساعد نفسي، ذلك يحدث فعلا. تعرف أن ذلك يحدث يا إلهي. أوه يا إلهي، أبعدني عن ذلك الهاتف. أبعدني. دعني أحتفظ ببعض الكبرياء. أعتقد أنني سأحتاج إلى ذلك يا إلهي. أعتقد أنها كلّ ما أملك.
أوه، وما تهمّ الكبرياء عندما لا أستطيع الصمود إن لم أتحدث إليه؟ كبرياء كهذه شيء تافه دنيءٌ سخيف. الكبرياء الحقيقية، الكبرياء الكبيرة هي أن لا تكون هناك كبرياء. لا أقول ذلك لمجرد أنني أريد أن أهاتفه. لا، ذلك صحيح، أعرف أن ذلك صحيح. سأكون كبيرة. سأكون أكبر من مشاعر الكبرياء التافهة.
أرجوك يا إلهي امنعني من مهاتفته. أرجوك يا إلهي.
لا أرى ما شأن الكبرياء بذلك. هذا أمرٌ تافهٌ لأدخل فيه الكبرياء ولأثير كلّ هذا الضجيج. قد أكون أسأت فهمه. ربما قال لي أن أهاتفه في الخامسة. "هاتفيني في الخامسة يا حبيبتي". ربما قال ذلك، رائع جدّا. من الممكن جدّا أنني لم أسمعه جيدًا. "هاتفيني في الخامسة يا حبيبتي". إنني على ثقة تقريبا أن هذا ما قاله. يا إلهي، لا تتركني أحدّث نفسي هكذا. دعني أعرف، أرجوك دعني أعرف.
سأفكر في شيء آخر. سوف أجلس بهدوء وحسب. لو أنني أستطيع الجلوس ساكنةً. لو أنني أستطيع الجلوس ساكنةً. لعلني أستطيع القراءة. أوه، جميع الكتب تتحدث عن أناس أحبّ بعضهم بعضًا، بصدق وبعذوبة. لِمَ يرغبون في أن يكتبوا عن ذلك؟ ألا يعلمون أن ذلك ليس صحيحًا؟ ألا يعلمون أن ذلك كذبة، كذبة لعنها الإله؟ ما لديهم ليقولوه عن ذلك عندما يعرفون أنه يؤذي؟ عليهم اللعنة، عليهم اللعنة، عليهم اللعنة.
لن أفعل. سأبقى هادئة. إنه لا شيء لأتحمس لأجله. اسمع. لنفترض أنه شخص لا أعرفه جيّدا. لنفترض أنه فتاة أخرى. عندها سأهاتف وأقول: "بحقّ الإله، ما خطبك؟" ذلك ما سأفعل حتى إنني لن أفكر فيه. لم لا أكون عفويةً وطبيعية فقط لأنني أحبه؟ أستطيع أن أكون كذلك. بصدق، أستطيع أن أكون كذلك. سأهاتفه وسأكون سلسة ولطيفة جدّا. سترى ذلك يا إلهي، أوه، لا تتركني أهاتفه. لا تفعل، لا تفعل، لا تفعل.
إلهي، ألن تجعله يهاتفني فعلا؟ أمتأكد يا إلهي؟ ألا تستجيب؟ ألا تفعل؟ إنني لا أسألك حتى أن تجعله يهاتفني في هذه اللحظة، يا إلهي، اجعله يفعل ذلك بعد قليل. سأعدّ حتى الخمسمئة بإضافة خمسة في كل مرة. سأعدّ ببطء شديد وبإنصاف شديد. إن لم يهاتفني سأهاتفه. سأفعل. أوه، أرجوك يا إلهي العزيز، إلهي الطيب العزيز، أبي المبارك في السماوات، دعه يهاتفني قبل ذلك. أرجوك يا إلهي أرجوك.
خمسة، عشرة، خمسة عشر، عشرون، خمسة وعشرون، ثلاثون، خمسة وثلاثون.


الثلاثاء، 31 مايو 2016

نشرُ صورك على الإنترنت ليس حياةً أنت تصنع نعيَك الخاص



للكاتب الهندي البريطاني رانا داسغوبتا Rana Dasgupta
ترجمة زوينة آل تويّه
المصدر: الجارديان


وأنت توجّه شاشة هاتفك نحو كل شيء، من كاتدرائية نوتردام إلى قطعة من كعكة الشوكولاه، تذكّر أن هذه الصور لن تكتسب أهميتها إلا بعد أن ترحل.


ها هو الصيف يُقبل مجدّدا، ويحزم الناس حقائبهم هربًا منه، عيونهم مستعدة لمشاهد حيّة: شواطئ مشمسة، ومتاحف شهيرة، ومقاهٍ مظلَّلة.
ومع ذلك، هناك عيون أكثر من ذي قبل سترى أن لا شيء أكثر حياةً من شاشات هواتفهم الذكية. لن يكونوا بحاجة إلى النظر إلى غروب الشمس وأشجار النخيل، ذلك لأن بحوزتهم نسخًا متكاملة على أجهزتهم (كْلِك!). لن يُسبّب الحجم الضخم لكاتدرائية نوتردام في باريس، أو المسرح الروماني [كولوسيوم] في روما أيَّ إجهادٍ للعين: ستكون العين قادرة على رؤية عظمة هذه المواقع بحجمٍ رقمي مصغّر وغير مؤذٍ (كْلِك!)، وستمنحها الشاشات نسخها الخاصة من الموناليزا أو من زهور عباد الشمس لڤان جوخ، نُسخًا تتميّز عن الأصول تميّزا كبيرا، نُسخًا يمكن امتلاكها وحفظها واستخدامها مادةً لحكايةٍ شخصية على الإنترنت.

عندما نرى مزيدا من الآباء والأمهات يراقبون أطفالهم يكبرون على نحوٍ كامل على الشاشة، يغدو واضحًا أن حفظ المحفزات الحسيّة لدينا في هيئة رقمية أصبح حدثًا رئيسًا. لا أحد يظن حقًّا أنه سيجلس في المستقبل ليستعيد كل شيء سجّله. من الواضح أن ذلك ليس الهدف. كلا، فالفكرة هي أن الذاكرة الاعتيادية أصبحت غير كافية لأن تكون تسجيلا ل"الحياة"، أيًّا يكن ذلك. تحتاج التجربة الإنسانية إلى أن تتحول إلى تجربة غير إنسانية كي تكون واقعية. إِنْ لم تُسجَّل رقميًّا، فإنها لم تحدث.

كيف وصلنا إلى هنا؟ إنه عصرٌ مادي عصرُنا هذا، ولهذا نحن ميالون لتصديق التفسيرات المادية. نخبر أنفسنا أن التكنولوجيا الرقمية سبّبت هذا التقليل من قيمة التجربة. غير أن التفسير المضاد، مع أنه أكثر غموضًا، صحيحٌ على حدّ سواء. إنه التقليل من قيمة التجربة ما أدّى إلى التكنولوجيا الرقمية. ليس الأمر أن الاصطناعية الرقمية موجودة، ومن ثمّ، وبمصادفة رائعة "احتاجت إليها" حياتنا الداخلية فجأةً. كلا، فنحن ومنذ أكثر من قرن محاصرون في عمليات آلية جعلتنا نتوقف عن الإيمان بتجاربنا، وكأناسٍ مستعمَرين يحاولون تأكيد ذواتهم بلغة المضطهِد نشعر بموجة من المهابة تجتاحنا مع كل كلمة جديدة نتعلمها من لسان الآلة نفسها.

وبالطبع، إن كان بمقدور الآلات الضحك، فإنها ككل المضطهِدين الآخرين السابقين ستتدحرج على الأرض من فرط الضحك على جهودنا في "تكلّم لغة الآلة". سترى حقيقة توثيقنا الذاتي المهووس: محاولة عقيمة لتأكيد ما لا نؤمن به  نحن أنفسنا، أي حقيقة أننا نحيا فعلا. "أنا أزور نيويورك. آكل كعكة الشوكولاه. لديّ زهرة على شعري".
عندما كان الناس يعيشون حقًّا، لم يكونوا بحاجة إلى الاعتراض كثيرا. لم يكونوا يتخيلون أن الغرباء قد يهتمون بحقيقة أنهم تناولوا كعكة الشوكولاه على الغداء، ولا أثناء حياتهم على الأقل. كانوا على دراية أن توافه كهذه تغدو ذات أهمية في لحظة الموت وحسب، اللحظة التي يكون فيها التأثر غامرا على نحو مفاجئ عندما نتذكر أن أحدهم كانت له هذه الملابس، وهذا الطعام، وهذه الإيقاعات.

في العصر الذي كان الناس ما يزالون يؤمنون بأنفسهم، كانوا يكتبون سيرهم الذاتية. نحن، بالمقابل، أصبحنا ننعى أنفسنا. مع كل ما يفعله مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي لتوثيق ذواتهم بين يوم وآخر، فإن ما يسجلونه ليس حياة. إنه بالأحرى موت في الحياة. إنه "وجود" فرّت منه الحياة، مخلّفةً وراءها قشورًا رقمية. آثارنا في وسائل التواصل الاجتماعي نعيٌ نكتبه بأنفسنا، مجموعة من الذكريات نتركها للأجيال القادمة لنمنح قوةً لهذا الادعاء البسيط الزائف: أننا عشنا. عند لحظة مماتنا فقط تكتسب حساباتنا في الفيس بوك أو الانستجرام أهميتها الحقيقية والمقصودة دائما. وأخيرا تصبح كعكة الشوكولاه التي تناولناها مرّةً على الغداء ذات مغزى.

يكمن التحقّق الكامل لذلك في المستقبل، وسيأتي يوم يكون فيه لهذا الهوس الصيفي بالشاشة معنى في نهاية المطاف. إننا فقط لن نعيش لنراه.

الثلاثاء، 29 مارس 2016

مِسترال جانيو



غناء: لارا فابيان
ترجمة: زوينة آل تويّه

أن أجلس خمس دقائق على مقعد معكِ
نرقب الناس، إن كان ثمّة أحد
أحدّثك عن الأوقات الجميلة التي ولّت أو التي ستعود
أمسك بيدي أصابعَك الصغيرة
وهي تطعم حمائم حمقاء
أتظاهر بركلها ممازحًا
فأسمع ضحكتك تشقّ الجدران
ضحكتك التي تشفي جراحي
وأحكي لكِ قليلا عني عندما كنت صغيرا وجميلا
عن الحلوى الرائعة التي كنّا نسرقها من البائع
حلوى عرق السوس والنعناع والكاراميل التي تُباع بفرنك
وحلوى مِسترال جانيو

أن أمشي تحت المطر خمس دقائق معكِ
نرقب الحياة، إن كان ثمّة حياة
أحكي لكِ عن العالم وعيناي تنظرانك بحبّ
وعن أمّكِ قليلا
وكيف كانت تغضب عندما نتقافز في البرك
فتتسخ أحذيتنا ونضحك

وأسمع ضحكتك وكأني أسمع البحر
رائحًا غاديًا
أخبرك عن حلوى الكارامبار وعرق السوس المسحوق
وحلوى رودودو التي قطّعت شفاهنا وكسّرت أسناننا
وكذلك حلوى مِسترال جانيو

أن أجلس خمس دقائق على مقعد معكِ
نتأمل الشمس وهي تغرب
أحدثك عن الأوقات الجميلة التي ولّت ولا أبالي
وأخبرك أن الأشرار ليسوا نحن
وأنني إن بدوت مجنونا، فذلك بسبب عينيكِ
لأنهما تحظيان بكونهما اثنتين
وأسمع ضحكتك ترفرف عاليًا
كصياح الطيور
وأقول لكِ أخيرا أن تحبي الحياة
أن تحبيها حتى لو كان الوقت قاتلا
ويأخذ معه ضحك الأطفال
ومِسترال جانيو
مِسترال جانيو



الأربعاء، 23 مارس 2016

ولو لم تكوني موجودة








غناء: جو داسان
ترجمة: زوينة آل تويّه

ولو لم تكوني موجودة
قولي لي ما نفع وجودي
كي أتخبط في هذا العالم بدونك
بلا أمل ولا حسرة
ولو لم تكوني موجودة
لجرّبت اختراع الحب
مثل رسّام يرى بين أصابعه
ألوان يومه تولد
ويُدهَش بها

ولو لم تكوني موجودة
خبّريني لأجل مَن عليّ أن أوجد؟
للعابرات النائمات بين ذراعيّ؟
اللاتي لن أحبّهنّ أبدًا
ولو لم تكوني موجودة
فلن أكون أكثر من نقطة
في هذا العالم الذي يغدو ويروح
سأشعر بالضياع
سأحتاج إليكِ

ولو لم تكوني موجودة
قولي لي كيف لي أن أوجد
ربما ادعيّت أني موجود
لكنني لن أكون حقيقيّا
ولو لم تكوني موجودة
لاعتقدت أنني اكتشفت
سرّ الحياة وسببها
فقط لأخلقك
وأتأملكِ

ولو لم تكوني موجودة
قولي لي ما نفع وجودي
كي أتخبط في هذا العالم بدونك
بلا أمل ولا حسرة
ولو لم تكوني موجودة
لجرّبت اختراع الحب
مثل رسّام يرى بين أصابعه
ألوان يومه تولد

ويُدهَش بها

الاثنين، 8 فبراير 2016

الهارب من الجندية




كلمات وغناء: بوريس فيان
ترجمة زوينة آل تويّه




سيدي الرئيس
أكتب لك رسالة
لعلك تقرأها
إن سنح لك الوقت
تلقيّت توّا
أوراق التجنيد
للذهاب للحرب
قبل مساء الأربعاء

سيدي الرئيس
لا أريد فعل ذلك
فلستُ على هذه الأرض
لقتل الفقراء
لا أريد إغضابك
لكن عليّ أن أقول لك
أنّ قراري ناجز
وأنني لن أذهب للتجنيد

مُذ وُلدت
شهدت موت أبي
شهدت رحيل إخوتي
ورأيت بكاء أطفالي
أمي عانت الكثير
وفي قبرها
ترقد هازئةً بالحرب
هازئةً بالقصائد

عندما كنت في الأسْر
سلبتموني زوجتي
سلبتموني مهجتي
وكلّ ماضيّ العزيز
غدًا وفي الصباح الباكر
سأغلق بابي
في وجه السنون الميتة
وسأمضي في الدروب

سأتسوّل حياتي
على طرقات فرنسا
في بريتاني في بروفانس
وسأقول للناس:
فلترفضوا الخضوع
ولترفضوا الحرب
اجتنبوها
وارفضوا الرحيل
وإن كان من إراقة الدم لا مفر
فليكن دمك أنت أيها الرئيس
فأنت المبشّر المعطاء

سيدي الرئيس
إن تعقّبتني
فلتبلغ جنودك
أنني لست مسلّحًا
وليطلقوا النار