عن مائة عام من العزلة
أنا الآن في ماكوندو،
المدينة التي اخترعها ماركيز بكل ما أوتي من طاقة خيال. أرى أورسولا وهي تمعن في
التقدم في العمر إلى ما لا نهاية. تفقد نظرها تماما لكنها ترى من خلال ذاكرتها كل
شي، وتعرف أين اختفى خاتم زواج فرناندا التي قلبت البيت الكبير رأسا على عقب بحثًا
عن الخاتم. في الصالة أرى أمارانتا جالسة ومنسية هناك منذ زمن بعيد وهي تحيك كفنها
بكل إتقان وإخلاص، وبثقة أنها ستموت في اليوم الذي ستنهي فيه آخر خيط في الكفن،
وتعرف أن الموت ينتظرها حتى تفرغ من ذلك. في جانب آخر من البيت خرجت إلى المختبر
الذي احتضن أفكار خوزيه أركاديو بوينديا واختراعاته المجنونة والتي كان يستلهمها
من زيارات الغجر لماكوندو في شهر مارس من كل عام، جالبين معهم اختراعات شتى من
جهات العالم، لتسحر ماكوندو وتخطف لُب خوزيه أركاديو بوينديا. وعندما يموت لا تجد
أورسولا مكانا أفضل لدفنه من شجرة الكستناء التي رُبط إليها عندما فقد عقله وظل
هناك زمنا طويلا. لكن أورسولا أيضا لم تتوقف عن الحديث إلى زوجها هذا وهو تحت
الشجرة، تشكو إليه الحال الذي آل إليه البيت والأبناء وماكوندو التي كانت هو من
وجدها في زمن غابر. وأرى في المختبر ذاته الكولونيل أورليانو بويندا وهو يقضي آخر
سنواته صانعا أسماكه الذهبية المفضلة بصبر محارب قديم.. وكلما انتهى من مجموعة
منها أذابها كلها ليعاود صناعتها من جديد. وهكذا أراد أن يعيش الكولونيل معزولا في
جسده وروحه بعد أن فشل في حروبه الكثيرة التي امتدت سنوات طويلة والتي ما عرف قط
لأي سبب نشبت. يموت الكولونيل أورليانو متكئا على شجرة الكستناء التي كان يتبول
عليها كلما نادته الطبيعة غير آبه أن أباه يرقد تحتها ضاربا بتوسلات أورسولا عرض
الحائط. مات الكولونيل بعد أن خبر شعورا نوستالجيا وحيدا وبعيدا جدا للحظة وجيزة
عندما سمع ضجيجا في الخارج ولمّا خرج رأى موكب سيرك يزور ماكوندو، وعندما عاد إلى
شجرة الكستناء تبول وراح يفكر في السيرك والمهرجين باحثا عن ذكرى بعيدة لكنه لم
يفلح في إيجادها. اتكأ بجبينه على الشجرة ومات. ولم تكتشفه العائلة إلا في اليوم
التالي عندما رأووا النسور تحوم فوق الشجرة. عندما وقفت عند تلك الشجرة لم أستطع
نسيان أبناء الكولونيل السبعة عشرة، والذين يحملون جميعا اسم أورليانو. رأى
الكولونيل المصير التراجيدي لأبنائه جميعا مكتوبا على جبين كل واحد منهم. وفي غضون
أسبوع، في أماكن مختلفة، قُتِل الأورليانو جميعهم بطلقات لم تخطئ علامة الصليب في
جبين كل منهم. أخرج من بيت أورسولا وأمضي في شوارع ماكوندو وأزقتها، مارّة بشارع
الأتراك الذي كان عربيًّا أيضا. ثم أقصد بيت ريبيكا، متهالك ومنخور وتسكن السحالي
جدرانه وأبوابه ونوافذه المتشققة. تجلس ريبيكا في وسط البيت، عجوزا ذابلة ولا أحد
في ماكوندو يعرف إن كانت ما تزال على قيد الحياة. لم يعرف أحد ذلك إلا عندما أراد
أحد أبناء الكولونيل دخول البيت المهجور واتخاذه سكنا. ما كان من ريبيكا إلا أن
تصدت له وطردته من البيت الذي آلت على نفسها ألا تبرحه أبدا وألا تعود مطلقا إلى
البيت الكبير الذي ترعرعت فيه. ولم تعرف أبدا أن أمارانتا كانت تحيك لها ثوب الموت
أيضا، ربما لأنها -أمارانتا- تمنت أن تموت ريبيكا قبلها وأن تدفن للأبد تلك
الضغينة التي حملتها لها طوال حياتها لأنهما أحبّتا الرجل نفسه ولم تتزوجه أيّ
منهما. كان يحب ريبيكا لكنها في نهاية المطاف هجرته، ثم أحب أمارانتا التي رفضته
ورفضت كل رجل أراد الاقتران بها وعاشت في حداد أبدي. وفي نهاية المطاف مات العاشق
منتحرا وعاشت الاثنتان كلا في كهف عزلتها.
إنها رواية العزلة
الإنسانية، عزلة كل كائن فينا.
زوينة آل تويّه
جميل جدًا ما كتبته. مشوّق لي أن أبدأ في قراءة الرواية، رغم ما سمعت عنها أنها مملة جدًا، لكن لكلٍ رأيه، على أي حال.
ردحذفكتاباتك فيها حميمية لطيفة، تشعرني بأني أواجهك وأنتِ تحكين. افتقدك كثيرًا بالمناسبة :))
روز الرائعة.. شكرا لك عزيزتي على التعليق اللطيف. مئة عام من العزلة تحتاج إلى صبر ونفس طويل في القراءة خاصة مع تكرار الأسماء وامتداد الحكاية على مدى أجيال، ولذلك يمكن تفهّم وصف البعض لها بالمملة، مع ذلك، هي في نظري من أجمل ما قرأت لماركيز. أتمنى أن يكون لنا لقاء قريبا :)
ردحذف