جورج أورويل
مُنذُ عُمرٍ مبكِّرٍ جدا، ربما في الخامسة أو السادسة، عرفتُ
أنني عندما أكبر ينبغي أن أصير كاتبا. وما بين السابعة عشرة والرابعة والعشرين
حاولت نبذ هذه الفكرة، لكنني قمت بذلك وأنا واعٍ أنني أستثيرُ سخطَ طبيعتي
الحقيقية وأنني عاجلا أو آجلا سأحسمُ المسألةَ وسأؤلفُ كتبًا.
كنتُ
الأوسطَ بين ثلاثةِ أبناء، لكن كان ثمَّة هُوَّة خمس سنوات تفصلني عن كل منهما،
وكنت بالكاد قد رأيت والدي قبل بلوغي الثامنة، لهذا وغيره من الأسباب كنت منعزلا
إلى حدٍّ ما، وسرعان ما أظهرتُ طباعًا سيئةً جعلتني غيرَ محبوبٍ طوال سنواتِ
الدراسة، كانت لديّ عادةُ الطفل المنعزل في اختلاقِ القصص والمحادثات مع أشخاص
متخيلين، وأعتقد أن طموحاتي الأدبية كانت تمتزج منذ البداية بشعوري أني معزولٌ ومُبخسُ
التقدير، كنت أدرك أن لديَّ براعةً في استخدام الكلمات وقدرةً على مواجهة الحقائق
البغيضة، وشعرتُ أن ذلك خلق نوعا من عالم خاصٍّ يعينُني على تحمُّلِ فشلي فيما
يتصلُ بشؤون الحياة اليومية، ومع ذلك، فإنَّ حجمَ الكتابة الجادَّة – أي الكتابةِ
التي كنتُ جادًّا بشأنِها - التي أنتجتُها خلال طفولتي وصباي لم يكن ليبلغ نصفَ
دزينة من الصفحات. لقد كتبتُ أولَ قصيدةٍ عندما كنتُ في الرابعة أو الخامسة، ولم
يكن يعني أُمِّي فيها سوى الإملاء، لم أعدْ أتذكَّر شيئا منها سوى أنَّها كانت عن
نمرٍ أسنانُه تشبه الكرسيّ.. تعبيرٌ جيِّدٌ بما فيه الكفاية، لكنني أخالُ أن
القصيدةَ كانت انتحالا لقصيدةِ بليك "نمر، نمر"، وكتبتُ في الحادية
عشرة، عندما اندلعتْ الحرب (1914-1918) قصيدةً وطنيةً نُشِرَتْ في الصحيفةِ
المحلية. وبعد عامين كتبتُ أخرى في موتِ كيتشنر. ومن حين لآخر، عندما كبرتُ قليلا،
كتبتُ قصائدَ سيئةً عن الطبيعة وغالبا ما كانت تلك القصائدُ غيرَ مكتملة ومكتوبةً بأسلوبٍ
جورجي، كما حاولتُ كتابةَ قصةٍ قصيرة كانت إخفاقا مروِّعا، كان ذلك جماعَ ما أردتُ
أن يكون عملا جادّا كتبتُه بالفعل طوال تلك السنوات.
غير
أني انغمستُ، بمعنى ما، في أنشطةٍ أدبيةٍ خلال ذلك الوقت، وقد تصدَّر ذلك الموادُّ
المنتَجةُ بناءً على طلب، والتي أنجزتُها بسرعةٍ وبسهولة وبدون متعةٍ ذاتية.
وبعيدا عن العمل المدرسي، كتبتُ ver
d’occasion
أعمال مناسبات، وتلك كانت قصائد شبهُ هزلية، والتي كان في مقدوري
أن أُنتجَها بسرعة، تبدو لي الان، مدهشة-- ففي الرابعة عشرة، كتبتُ مسرحيةً شعريةً
مُقفَّاةً كاملة، حاكيتُ فيها أرسطوفان، في حوالي أسبوع -- وساعدتُ في تحريرِ
مجلاتٍ مدرسية، مطبوعةٍ ومخطوطة. كانت هذه المجلات من أكثر الأشياء تفاهةً ومحاكاةً
هزليةً يمكنك تصوُّرُها، وهذه أبديتُ نحوها اهتماما أقلَّ مما أُبديهِ الآن مع
أوضعِ الصحف. ولكن، جنبا إلى جنب مع كلِّ هذا، ولخمسةِ عشر عاما أو أكثر، كنتُ
أمارسُ نشاطا أدبيا من نوعٍ مختلفٍ تماما، وقد كان ذلك عملُ تخييل "قصة"
متواصلة عنِّي، هي ضرْبٌ من اليوميات الموجودة في المخيِّلة فحسب. أعتقد أنَّها
عادةٌ شائعةٌ لدى الأطفال والمراهقين، وكطفلٍ يانِع، اعتدتُ أن أتخيَّلُنِي، لِنقُلْ،
روبن هود، وأتصوَّرُ نفسي بطلا في مغامراتٍ مثيرة، ولكن سرعان ما كفَّتْ قصتي عن
نرجسيَّتِها الفظَّة وغدتْ بالتدرُّج مجرَّدَ وصفٍ لما كنتُ أفعلُ وأشاهد، وهذا
كان يخطرُ لي، خلال ذلك الوقت، لدقائق على نحو من قبيل التالي: " دفعَ البابَ
ودلفَ الغرفة، تسرَّبَ شُعاعٌ أصفر من ضوءِ الشمسِ عبر الستائر القطنية، مائلا فوق
الطاولة حيث تستريحُ علبةُ كبريتٍ نصفُ مفتوحةٍ قربَ المحبرة، تحرَّك نحو النافذة
واضعا يدَه اليمنى في جيبه، وفي الأسفل، في الشارع، كانت هناك قطةٌ سلحفائيةُ
الظهر تطارِدُ ورقةَ نباتٍ يابسة، ...الخ، الخ". استمَّرتْ هذه العادةُ حتى
بلغتُ الخامسةَ والعشرين من أعوامي اللاأدبية، ورغم أنه كان عليَّ أن أبحثَ وهذا
ما فعلتْ، عن الكلمات الصحيحة، إلا أنني كنت أقوم بهذا الجهد الوصفي ضد رغبتي
تقريبا وتحت إكراهٍ خارجي. أفترض أن "القصة" جاءت انعكاسا لأساليب كتَّاب
عدَّة أُعجبتُ بهم في مراحلَ مختلفةٍ من عمري، لكنَّها، بالقدر الذي أستطيع تذكُّرَ
الأمرِ به، كانتْ دوما تحملُ نفسَ الجودةِ الوصفيَّةِ الدقيقة.
عندما بلغتُ نحوا من السادسة عشرة، اكتشفتُ فجأةً متعةَ
الكلمات لذاتِها، وأعنِي بذلك مسمَعَها وتداعياتِها، إنَّ هذه السطورَ من
"الفردوس المفقود":
وهكذا رافقَ المشقَّةَ البالغةَ والصِّعابَ في رحلتِها
ورافقتهُ
المشقَّةُ البالغةُ والصعاب..
والتي لا تبدو لي الآن رائعةً جدا، كانت تبعثُ القشعريرةَ
في جسدي، كما أنَّ تهجئةَ الضميرhee))
بدلا من (he ) "هو" كانت متعةً إضافية، أما بالنسبة للحاجةِ لوصفِ الأشياء فذلك ما كنتُ أعرفهُ مسبقا، ولذلك يتضح أيُّ نوعٍ من الكتب كنتُ أرغبُ في كتابته، وذلك بالقدر الذي يمكن به القولُ أنني
كنتُ راغبا في كتابةِ كتب. كنتُ أرغبُ بكتابة رواياتٍ طبيعيةٍ ضخمة،
ذات نهاياتٍ حزينة، مَلأى بوصوفٍ مفصَّلةٍ وابتساماتٍ آسِرة، وكذلك ملأى بمقاطعَ منمَّقةٍ تُستخدَم فيها الكلماتُ جزئيا لأجلِ خاطر
مسمعِها، وفي الحقيقة أنَّ روايتي الأولى التي أكملتُ كتابتَها "أيامٌ بورمية" والتي أنجزتُها عندما كنتُ في الثلاثين رغم أنني خططتُ لكتابتِها قبل ذلك
بكثير هي بالأحرى من هذا النوع من الكتب الذي أردتُ أن أكتبْ.
أقدِّمُ
كلَّ هذه المعلومات حول خلفيتي
لأنني لا أعتقدُ أنه بإمكانِ المرءِ
تقييمَ دوافعِ كاتبْ ما لمْ يعرفْ شيئا عن نُموِّهِ المبكِّر، فالموضوع الذي
يتناوله الكاتب يحدِّدُه
بالعصر الذي يعيش فيه- يصحُّ هذا
على الأقل، في العصور الثوريَّةِ
الهائجةِ كعصرِنا- لكنَّه قبل أن يبدأ بالكتابة سيكون قد اكتسبَ موقفا انفعاليا لن يتمكنَ من الإفلاتِ منه بالكامل، وبدون شكّ، فإنَّ من واجبِه ضبطَ مزاجِهِ وتفادي التورط في طورٍ غير احترافي، وفي حالٍ غير طبيعي، لكنه إذا ما
أفلتَ تماما من مؤثراتِهِ المبكِّرة بالكامل، فإنه سيكون قد قتلَ
حافزَ الكتابةِ لديه، إذا ما طرحنا الحاجةَ لكسبِ العيشِ جانبا، أعتقد أنَّ هناك
أربعةَ دوافع كبرى للكتابة -- الكتابةِ النثرية، في أية حال، وتحضرُ هذه الدوافعُ بدرجاتٍ متفاوتةٍ عند كلِّ كاتب وتتنوعُ نسبُها لدى الكاتب نفسِه من حين لآخر، وفقا للمناخِ
الذي يعيش فيه.
هذه الدوافعُ هي:
1. الأنويَّةُ الصرف:
الرغبةُ في أن تبدوَ ذكيا، أن يتحدث عنك الآخرون، أن تُذكَرَ
بعد الموت، أن تنتقمَ من الكبار الذين نهروك في طفولتِك، ..الخ، الخ. إنه لدجلٌ
ادّعاءُ أن ذلك ليس حافزا قويا. يشترك الكُتَّابُ في هذه الخاصيةِ مع العلماء
والفنانين والسّاسةِ والمحامين والجنود ورجالِ الأعمال الناجحين، باختصار مع كل
الشرائحِ البارزةِ للمجتمعِ البشري. إن الغالبيةَ العظمى من البشر ليست بالغةَ
الأنانية، فبعد الثلاثين أو نحو ذلك يكفُّ الناسُ تقريبا عن الشعورِ بكونِهم محضُ
أفراد مستقلين، ويعيشون غالبا لأجل آخرين، أو أنَّهم ببساطة يخمدون تحت وطأةِ الكدْح،
لكن بالمقابل هناك الأقليَّةُ الموهوبةُ والعنيدةُ والمُصرَّةُ على الحياةِ حتى
النهاية، والكتَّابُ ينتمون إلى هذه الفئة، وعليَّ قولُ أنّ الكتَّابَ الجادِّين
هم إجمالا أكثرُ تفَهَاً وتمركزا حول ذواتِهم من الصحفيين على الرغم من أنهم أقلُّ
رغبةً في المال.
2. التحمُّسُ الجمالي:
إدراكُ الجمالِ في العالم الخارجي، أو، من ناحية أخرى، في
الكلماتِ وترتيبِها الصحيح. اللَّذةُ في تأثيرِ صوتٍ معين، في تماسكِ قصيدةِ نثرٍ
بارعٍ أو إيقاعِ قصةٍ جيدة، الرغبةُ في البوحِ بتجربةٍ يشعرُ الكاتبُ أنَّها قيِّمةٌ
ولا ينبغي تضييعَها، إنَّ الحافزَ الجماليَّ واهنٌ جدا لدى الكثير من الكتَّاب،
رغم أنَّ حتى الكراريسيّ أو مؤلف الكتب المدرسية لديه كلماتٌ وعباراتٌ أثيرةٌ تروقُ
له لأسباب غير نفعيَّة أو قد يوجد لديه إحساسٌ قويٌّ بجماليةِ تنضيدِ وصفِّ المادةِ
المطبوعة، بعرضِ الهوامش...الخ، الخ، وما من كتابٍ يرتقي في مستواه عن مستوى دليلِ
السككِ الحديديةِ يخلو تماما من الاعتباراتِ الجمالية.
3. المُحفِّزُ التاريخي:
الرغبةُ في رؤيةِ الأشياء كما هي، إيجادُ الحقائق وادِّخارُها
للأجيالِ القادمة.
4. الغرضُ السياسي:
استخدامُ – أعني هنا - كلمة "سياسي" في أوسع
معانيها، الرغبةُ في دفعِ العالم نحو وجهةٍ معينة، تغييرُ أفكارِ الناس حول طبيعةِ
المجتمع الذي ينبغي لهم الكفاحُ لأجلِه، مرَّةً أخرى، ما من كتابٍ يخلو بحقٍّ من محاباةٍ
سياسية، إنَّ الرأيَ القائلَ بأنْ لا علاقةَ للفنِّ بالسياسة، هو في حدِّ ذاتِه موقفٌ
سياسي.
يمكن رؤيةُ كيف تُصارعُ هذه الدوافعُ المختلفةُ بعضها بعضا
وكيف لا بدَّ من أنْ تتذبذبَ من شخصٍ لآخر ومن زمنٍ لآخر، وبالطبيعة – التي أعني
بها ما أصبحتَ عليه يوم أن بلغتَ سنَّ الرشد - أنا شخصٌ تَبزُّ فيه الدوافعُ
الثلاثةُ الأولى الرابع، لو كنتُ أحيَا في زمنٍ سِلميٍّ لربَّما كنتُ قادرا على
كتابةِ كلامٍ مُنمَّقٍ أو كتبٍ وصفيَّةٍ فحسب ولربما بقيتُ تقريبا جاهلا بولاءاتي
السياسية، لكنَّ ما حدث هو أنني اضطُرِرتُ أن أكون نوعا من كاتبِ كراريس.
ففي
البدايةِ قضيتُ خمسَ سنواتٍ في مهنةٍ غيرِ مناسبة (الشرطةُ الإمبرياليةُ الهنديةُ
في بورما)، ثم عانيتُ الفقرَ والإحساسَ بالفشل، مما ضاعفَ كُرهي الفطري للسلطة
وجعلني للمرة الأولى واعيا تماما بوجودِ الطبقاتِ العاملة، ومكَّننِي العملُ في
بورما من فهم طبيعةِ الإمبريالية، لكنَّ هذه التجاربَ لم تكنْ كافيةً لتمنَحني
توجها سياسيا دقيقا. ثم جاء هتلر، والحربُ الأهليةُ الأسبانية.. الخ، ومع نهايةِ
عام 1935 كنتُ لا زلتُ غيرَ قادرٍ على التوصلِ إلى قرارٍ حازم. أتذكَّرُ قصيدةً صغيرةً
كتبتُها في ذلك التاريخ، مُعبِّرا فيها عن حيرتي:
ربَّما كان من الممكن
قبلَ مائتي سنةٍ خَلَتْ
أن أكون كاهنا سعيدا
يُبشِّر بالدنيويةِ الأبديَّة
بينما يرقبُ جوزاتِه وهي تنمو
أما لأنِّي، واحسرتاه، ولدتُ
في زمنٍ شرِّير
فقد تأخرتُ عن إدراكِ ذلك المأوى
لأن الشَّعرَ نَمَا فوق
شفتي العليا
بينما رجالُ الدِّين
شعورُهم حليقةٌ بعناية
ولاحقا كانت الأيامُ ما تزال طيبةً
وكان من اليسير إسعادُنا
وكنَّا نؤرجحُ أفكارَنا القلقة
لتنامَ في أحضانِ الأشجار
في جهلِنا
جرؤنا على تملُّكِ الغبطة
التي نتظاهرُ بها الآن
بينما عصفورُ الخضيري
على غصنِ شجرةِ التفاح
قادرٌ على أن يجعلَ أعدائي يرتعشون
لكنَّ بطونَ الصبايا وثمارَ المشمش
وأسماكَ الروشِ في الجداولِ الظليلة
والخيولَ، والبطَّ وهو يطيرُ في الفجر
كلُّ ذلك حلم
محرَّمٌ علينا أن نحلمَ من جديد
إننا نعطِّلُ أفراحَنا أو نخبِّئُها
فالخيولُ مصنوعةٌ من فولاذِ الكروم
وأقزامٌ بدينون هم من سيمتطونَها
أنا الدُّودةُ التي لم تلتفتْ أبدا
المخصيُّ بلا حريم
ومثلُ يوجين آرام
أمشي بين القسِّ والمفوَّضِ الشرعي
وكان المفوَّضُ يقرأُ حظِّي
فيما المذياعُ يعمل
غير أنَّ القسَّ وعدَ بأوستن سيفن
لأنَّ دوجي يدفعُ دوما
حلُمتُ أنني سكنتُ في قاعاتٍ مرمرية
وحين أفقتُ
وجدتُ أنَّ ذلك صحيح
لم أُولدْ لزمنٍ كهذا
أوُلِدتُم لزمنٍ كهذا؟
الحربُ الإسبانيةُ وأحداثٌ أخرى في 1936-1937 قلبتْ
الموازين، وبعد ذلك أدركتُ أين أقفْ. كلُّ سطرٍ كتبتُه في عملٍ جادٍّ منذ عام 1936
كان بشكلٍ مباشرٍ أو غيرِ مباشر ضدَّ التوليتارية ومع الاشتراكيةِ الديمقراطيةِ
كما أفهمُها، يبدو لي أنَّه من الهُراءِ التفكير بتجنُّبِ الكتابةِ في هذه
الموضوعات في زمنٍ كزمنِنا. كلُّ فردٍ يكتبُ عنها ضمنَ تمرءٍ أو آخر، إنَّ الأمرَ،
ببساطة هو مسألةُ الجانبِ الذي يقفُ فيه المرءُ وأيُّ نهْجٍ ينحُو، فكلَّما كان المرءُ
أكثرَ دِرايةٍ بأهوائِهِ السياسية، تهيَّأتْ له فرصةُ العمل فيما يخصُّ الأداءَ
السياسي من دون التضحيةِ بكرامتِهِ الجماليةِ والفكرية.
إنَّ أكثرَ ما رغبتُ القيامَ به طوالَ العشر سنوات الأخيرة
هو جعلُ الكتابةِ السياسيةِ فنًّا، أنطلقُ إلى ذلك، دوما، من شعورٍ بالمشايعةِ
السياسيةِ وإحساسٍ بالظلم. عندما أجلسُ كي أكتبَ كتابا لا أقولُ لنفسي:
"سأنتجُ عملا فنِّيّا"، أكتبُ لأنَّ ثمَّة كذبةً أرغبُ فضحَها، ثمَّة حقيقةٌ
أريد لفتَ الانتباه إليها، وهمِّي الأول هو أنْ أظفرَ بسماعِ مختلفِ الشهاداتِ
والحجج، لكنني أيضا لا أستطيعُ كتابةَ كتابٍ أو حتَّى مقالٍ طويلٍ في مجلَّة ما لم
يكنْ الأمرُ تجربةً جمالية. إنَّ أيَّ شخصٍ تهمُّهُ معاينةُ عملي سيلاحظ أنَّه حتى
لو عندما يكون عبارةً عن دعايةٍ صرف، فإنَّه يحوي الكثيرَ مما قد يعتبرُهُ سياسيٌّ
محترف غيرَ ذي شأن. إنني لا أستطيعُ ولا أرغبُ أبدا في التنازلِ عن نظرتي للعالم
التي اكتسبتُها في الطفولة، وسأظلُ أحملُ شعورا قويّا للأسلوبِ النثري وأحبُّ وجهَ
الأرض وأجدُ الَّلذةَ في الأشياءِ الجامدةِ وفتاتِ المعلوماتِ التافهةِ ما دمتُ حَيًّا
مُعافى، إذ لا فائدةَ من قمعِ ذلك الجانبِ في نفسي، عليَّ أنْ أُصالحَ رغباتي فيما
أحبُّ وأكرهُ مع النشاطاتِ الجوهريةِ العامةِ غيرِ الفرديةِ والتي يفرضُها عصرُنا
علينا جميعا.
ليس ذلك سهلا، إذ أنه يثيرُ إشكالياتِ البناءِ واللغة، كما
أنَّه يثيرُ بشكلٍ جديدٍ إشكاليةَ الصدق. لأعطِ فقط مثالا واحدا على الجانبِ الفظِّ
من الصعوبةِ التي تطرأ، كتابي عن الحربِ الأهليةِ الإسبانية (تقديرا لكتالونيا) هو
بالطبع كتابٌ سياسيٌّ بصورةٍ صريحة، لكنَّه، في الآنِ ذاتِه، كُتِبَ في الأساس بِتجرُّدٍ
معين واحترامٍ للشكل، لقد حاولتُ جاهدا أنْ أقولَ فيه الحقيقةَ كاملةً من دونِ أن
يكونَ ذلك على حسابِ فطرتي الأدبيةِ الأصليَّة، غيرَ أنَّه، ضمن أشياء أخرى، يضمُّ
فصلا طويلا، مليئا باقتباساتٍ من الصحفِ وما شابه، أدافعُ فيه عن التروتسكيين
الذين اتُهِمُوا بالتآمر مع فرانكو. من الواضح أنَّ مثلَ هذا الفصل - الذي سيفقدُ
أهميَّتَه لدى أيِّ قارئ عادي بعد سنة أو اثنتين - سيقضي على الكتاب، وقد وبَّخَنِي
ناقدٌ أحترمُهُ قائلا: "لماذا أقحمتَ كلَّ هذا الكلام؟، لقد جعلتَ ما كان
يمكنُ أن يكونَ كتابا جيدا عملا صحفيا "، كان ما قاله صحيحا، ولكنْ لم يكنْ
أمامي خيارٌ آخر، فقد صادفَ أنْ عرفتُ ما
سُمِحَ بمعرفتِهِ لدى قلَّةٍ قليلةٍ من الناس في انجلترا، وذلك هو أنَّ رجالا
أبرياءَ اتُهِمُوا غدرا، وما كنتُ لأكتبَ هذا الكتابَ لو لم أكنْ غاضبا من ذلك.
وأخذتْ إشكاليةُ اللغةِ هذه تتكررُ بشكلٍ أو بآخر، وهي
أكثرُ دقةً وبحاجةٍ إلى شرحٍ يطولْ، لكنني سأكتفي بالقول أنني حاولتُ في السنواتِ
الأخيرةِ الكتابةَ بتصويرٍ أقل ودقةٍ أكثر. وفي أيَّةِ حال فإنني أجدُ أنَّه في
الوقتِ الذي تتمكَّن فيه من أسلوبٍ كتابي، فإنك تتجاوزه دوما. كان "مزرعة
الحيوانات" أولَ كتابٍ حاولتُ فيه دمجَ الغرضِ السياسي بالفنِّي وأنا واعٍ
تماما بما أقوم، لم أكتبْ روايةً منذ سبعِ سنوات، لكنني آملُ كتابةَ واحدةٍ قريبا نوعا
ما. ومن المحتَّم أن يكونَ ذلك إخفاقا، فكلُّ كتابٍ إخفاق، لكنني أعلمُ بشكلٍ جليٍّ
أيَّ نوعٍ من الكتبِ أرغبُ بالكتابة. وبالنظرِ إلى الصفحاتِ الأخيرة، أرى أنَّ ذلك
كان واضحا كما لو أنَّ دوافعي في الكتابةِ كانت مفعمةً بحُبِّ العملِ للمصلحةِ
العامة، لا أرغبُ أن يكون ذلك انطباعا نهائيا. جميعُ الكُتَّاب تَفِهُون وأنانيون
وكُسالى، وثمَّة لغزٌ يقبعُ في أعمقِ أعماقِ دوافعِهم، إنَّ كتابةَ كتابٍ شيءٌ
مرعبٌ ومضنٍ، أشبهُ بنوبةٍ طويلةٍ من مرضٍ موجِع، إنَّ المرءَ ما كان سيأخذ على
عاتِقِه القيامَ بذلك لو لم يكنْ مدفوعا بروحٍ عفريتيةٍ لا يرومُ مقاومتَها أو فهمَهَا،
حيث أنَّ كلَّ ما يعرفُهُ هو أنَّ تلك الروحَ هي ببساطةٍ نفسُ الغريزةِ التي تدفعُ
طفلا للصراخ للفتِ الانتباه، ومع ذلك قد يبدو صحيحا أيضا أنَّ المرءَ قد لا يكتبُ
ما يستحقُّ القراءةَ ما لم يسعَ جاهدا لطمسِ شخصيتِهِ، والنثرُ الجيِّدُ يشبه
اللوحَ الزجاجي. لستُ متيقِّنا أيًّا من دوافعي هو الأقوى، لكنني أعلمُ أيُّها
يستحقُّ الاتباع، وعندما أنظرُ إلى أعمالي أجدُ أنَّه مُقفِرٌ منها ما يعوزُهُ المغزى
السياسي، وأنني وقعتُ في فخِّ مقاطعَ منمَّقَة، جملٍ بلا معان، ونعوتٍ مزخرفةٍ
وخادعةٍ عموما.