الاثنين، 28 ديسمبر 2015

ماكوندو


عن مائة عام من العزلة

https://mail.google.com/mail/images/cleardot.gif
أنا الآن في ماكوندو، المدينة التي اخترعها ماركيز بكل ما أوتي من طاقة خيال. أرى أورسولا وهي تمعن في التقدم في العمر إلى ما لا نهاية. تفقد نظرها تماما لكنها ترى من خلال ذاكرتها كل شي، وتعرف أين اختفى خاتم زواج فرناندا التي قلبت البيت الكبير رأسا على عقب بحثًا عن الخاتم. في الصالة أرى أمارانتا جالسة ومنسية هناك منذ زمن بعيد وهي تحيك كفنها بكل إتقان وإخلاص، وبثقة أنها ستموت في اليوم الذي ستنهي فيه آخر خيط في الكفن، وتعرف أن الموت ينتظرها حتى تفرغ من ذلك. في جانب آخر من البيت خرجت إلى المختبر الذي احتضن أفكار خوزيه أركاديو بوينديا واختراعاته المجنونة والتي كان يستلهمها من زيارات الغجر لماكوندو في شهر مارس من كل عام، جالبين معهم اختراعات شتى من جهات العالم، لتسحر ماكوندو وتخطف لُب خوزيه أركاديو بوينديا. وعندما يموت لا تجد أورسولا مكانا أفضل لدفنه من شجرة الكستناء التي رُبط إليها عندما فقد عقله وظل هناك زمنا طويلا. لكن أورسولا أيضا لم تتوقف عن الحديث إلى زوجها هذا وهو تحت الشجرة، تشكو إليه الحال الذي آل إليه البيت والأبناء وماكوندو التي كانت هو من وجدها في زمن غابر. وأرى في المختبر ذاته الكولونيل أورليانو بويندا وهو يقضي آخر سنواته صانعا أسماكه الذهبية المفضلة بصبر محارب قديم.. وكلما انتهى من مجموعة منها أذابها كلها ليعاود صناعتها من جديد. وهكذا أراد أن يعيش الكولونيل معزولا في جسده وروحه بعد أن فشل في حروبه الكثيرة التي امتدت سنوات طويلة والتي ما عرف قط لأي سبب نشبت. يموت الكولونيل أورليانو متكئا على شجرة الكستناء التي كان يتبول عليها كلما نادته الطبيعة غير آبه أن أباه يرقد تحتها ضاربا بتوسلات أورسولا عرض الحائط. مات الكولونيل بعد أن خبر شعورا نوستالجيا وحيدا وبعيدا جدا للحظة وجيزة عندما سمع ضجيجا في الخارج ولمّا خرج رأى موكب سيرك يزور ماكوندو، وعندما عاد إلى شجرة الكستناء تبول وراح يفكر في السيرك والمهرجين باحثا عن ذكرى بعيدة لكنه لم يفلح في إيجادها. اتكأ بجبينه على الشجرة ومات. ولم تكتشفه العائلة إلا في اليوم التالي عندما رأووا النسور تحوم فوق الشجرة. عندما وقفت عند تلك الشجرة لم أستطع نسيان أبناء الكولونيل السبعة عشرة، والذين يحملون جميعا اسم أورليانو. رأى الكولونيل المصير التراجيدي لأبنائه جميعا مكتوبا على جبين كل واحد منهم. وفي غضون أسبوع، في أماكن مختلفة، قُتِل الأورليانو جميعهم بطلقات لم تخطئ علامة الصليب في جبين كل منهم. أخرج من بيت أورسولا وأمضي في شوارع ماكوندو وأزقتها، مارّة بشارع الأتراك الذي كان عربيًّا أيضا. ثم أقصد بيت ريبيكا، متهالك ومنخور وتسكن السحالي جدرانه وأبوابه ونوافذه المتشققة. تجلس ريبيكا في وسط البيت، عجوزا ذابلة ولا أحد في ماكوندو يعرف إن كانت ما تزال على قيد الحياة. لم يعرف أحد ذلك إلا عندما أراد أحد أبناء الكولونيل دخول البيت المهجور واتخاذه سكنا. ما كان من ريبيكا إلا أن تصدت له وطردته من البيت الذي آلت على نفسها ألا تبرحه أبدا وألا تعود مطلقا إلى البيت الكبير الذي ترعرعت فيه. ولم تعرف أبدا أن أمارانتا كانت تحيك لها ثوب الموت أيضا، ربما لأنها -أمارانتا- تمنت أن تموت ريبيكا قبلها وأن تدفن للأبد تلك الضغينة التي حملتها لها طوال حياتها لأنهما أحبّتا الرجل نفسه ولم تتزوجه أيّ منهما. كان يحب ريبيكا لكنها في نهاية المطاف هجرته، ثم أحب أمارانتا التي رفضته ورفضت كل رجل أراد الاقتران بها وعاشت في حداد أبدي. وفي نهاية المطاف مات العاشق منتحرا وعاشت الاثنتان كلا في كهف عزلتها
إنها رواية العزلة الإنسانية، عزلة كل كائن فينا

زوينة آل تويّه 


الأربعاء، 23 ديسمبر 2015

العازف


"ذلك أنَّ الصُّورَ التي أُحبُّ، إجمالاً، مبْنِيَّةٌ على شاكلةِ سوناتة كلاسيكية"
رولان بارت

كان يجلسُ في الصفِّ الثالث، يحضن آلةَ الكونترباص الضخمة. بدا ضئيلاً لفرط ضخامتِها، وبدتْ هائلةً لشدة ما هو صغير. غير أنَّه كان جذَّاباً أيضاً وهو يخاصرُها. وحدَهُ من بين العازفين كان ناتئاً وشاخصاً بآلتِه، قوامُه رشيق.. له حاجبان كثيفان وعينان تذكِّران بعينيّ الصَّقر، تحدِّقان بحدَّة في الآلةِ التي كانت تستجيبُ برشاقةٍ لرقصاتِ أصابِعهِ على أوتارِها. سوف تلتصقُ هذه الصورةُ بذاكرتِها طويلاً لتكتشفَ بعد أعوامَ ممتدةٍ أنَّ عازفَ الكونترباص لم يكن وهماً، وأنَّ لها ذاكرةً قويَّةً وقلباً حاضراً أمامَ الشاشةِ آنذاك، وأنَّ الصورَ كاسحةٌ وتجتمعُ في صمتِها كلُّ الدُّهور. إنَّ الرَّبطَ بينَ الصورةِ، التي شاهدتْها الفتاةُ قبلَ أعوامَ طويلةٍ على الشاشةِ، والصورةِ الفوتوغرافيةِ التي رأتْها بعدَ ذلك قد يبدو ضرْباً من الشّطح وتحميلِ الأشياء أكثر مما ينبغي. لكنَّ الصورةَ في الوقت ذاتِه ليست من التبسيط والسَّذاجة بحيث يمكن عبورُها واجتيازُها من دونِ الاصطدام بلسعاتِها المفاجئة. إنَّ التأملَ في الصورتين يُفضي إلى أنهما صورةٌ واحدةٌ كانت قبل أعوام طويلةٍ أكثرَ حركةً وصوتاً، لكنها سكنتْ بعد ذلك وجمدتْ في يدِ العازف. العازفُ لم يكبرْ في الصورةِ ولا في الشاشة، بل كبُر خارجَها. وكذلك الفتاةُ، والتي ظلَّت خارجَ الصورةِ أصلاً.

لكنْ ما الذي يجعلُ صورةَ ذلك العازف على الأخصِّ من بين جميعِ العازفين تقبعُ بذاكرتِها لتقابِلَه في الحقيقة بعد تلك الأعوام؟!. هل كانت تَقرَأُ مستقبلاً، ماضياً ما داخلَ الصورة؟، هل كانت تنتظرُ وتَتلهَّفُ عبرَ الصورة؟!. مضتْ الشاشةُ بعيداً وغيَّبتْها الأعوام، لكنَّ العازفَ بقيَ في صورةٍ فوتوغرافيةٍ بالهيئةِ نفسِها التي ظهرَ عليها في الشَّاشة. لقد جمدتْ تلك اللحظةُ في صورة، وبقيتْ الفتاةُ هي الشاهدَ الوحيدَ على هذا التحوُّل لأنَّها تحتفظُ أيضاً بِصورةٍ داخلَها.

خلال الأعوامِ الطويلةِ أخذتْ الصورُ الثلاثُ للعازف في الشاشة، ذاكرةُ الفتاة والصورةُ الفوتوغرافية تتفاعلُ وتتحاورُ وتتجاذبُ أطرافَ الذاكرةِ والنِّسيان. الفتاةُ لا تنسَى إلاّ لتتذَكَّر، ذلك أنَّ الأعوامَ الطويلةَ تمرُّ بطيئةً، وذكرى قويَّةٌ كتلك الصورةِ لا يمكن نسيانُها بسرعة في زمنٍ طويلٍ يَمرُّ ببطء. وهي أيضاً تنسى لأنَّ وعيَها يكبرُ بسرعة ويتطلَّعُ لحقيقةٍ كانت تشعُّ من الصورةِ نفسِها. الانشغالُ بالنِّسيان هو التذكُّرُ بعينِه. لكنَّها تقفُ مذهولةً أمامَ العازف بعدَ الأعوامِ الطويلة رغمَ أنَّها كانت دائماً تتهيَّأ للتذكُّرِ والنِّسيان. إنَّ الذي يقف أمامَها يتجاوزُ كلَّ ذلك، وهو حاضرٌ بقوَّة لا يمكن تذكُّرُه أو نسيانُه أو حتَّى تخيُّله. إنَّه مألوفٌ وقريب وفي الوقتِ ذاتِه كائنٌ آخر اكتسى غرابتَه بمُثولِه القويّ. ها هي ذي صورةٌ رابعةٌ إذن: هل يمكن تسميتُها بالصورةِ الحقيقية لتمييزِها عن صورةِ الشَّاشةِ وصورةِ الذَّاكرة والصورةِ الفوتوغرافية؟!!

إنّ الفتاةَ تبقى واحدةً أمام الصورِ المختلفةِ أو العازفِ المتعدِّد. وإذا كانت في موقفِ اختيار.. أيُّها تختار؟ ألا يختلط عليها الأمر؟ وهل يقف عند حدِّ الاختيار؟ ثمَّ هل تحتمل المسألةُ الاختيار؟! إنَّ الصورةَ الأولى هي النظرةُ الأولى والمصادفةُ الأولى والحبُّ الأولُ الذي يلوِّحُ عبر الشاشة ولا يمكن ملامستُه، لكنه ينتعش وينتشر في الدَّاخل، في المرتفِعِ من القلب والذاكرة لتتشكلَ الصورةُ الثانية.. المؤلمةُ والمكتنزةُ بالانتظار والتَّرقُّب. إنَّها أكثرُ الصورِ نتوءاً وبروزاً ووخزاً، ذلك أنَّها طويلةٌ تقع بين الأعوام الممتدَّة فيما بين الصورتين الأولى والثالثة. تمحُو وتنقضُ كلَّ الخيوطِ المتشابكة التي تنسجُ عمرَ الفتاة التي حتماً لا تتوقف خطواتُها عند الصورةِ الأولى، على اعتبار أنَّ الكائنَ الحيَّ يكبرُ ويتحوَّلُ ويتأزَّمُ ويجرِّبُ ويرى الكثير. لكنَّ الفتاةَ في الصورةِ الثانية وهي تمرُّ بكلِّ ذلك لا تفتأ تتذكَّر المصادفةَ الأولى وتتفكّرُ وتحلّلُ وتشتاقُ وتضحكُ وتبكي وتذبلُ وتحنّ. إنَّ ذكرى هذه المصادفةَ هي الأبرزُ والأحدُّ في وعيِها، لأنّها تواصلُ وخزَها حتَّى في الصورةِ الفوتوغرافيةِ الجامدة. هذه الصورةُ الجامدةُ تثيرُ الذاكرة فتنتعشُ وتتلوَّنُ وتكفُّ عن جمودِها لتهتزَّ في يدِ العازف وتصيبَ الفتاةَ بالذهول لتصطدمَ بمعذِّبها وبكلِّ الصورِ التي مَثَّلته في حياتِها. وفي لحظة الاصطدام هذه تبهتُ الصورُ وتسقطُ الأحلامُ تباعاً. الحقيقةُ مُرَّةٌ وكافَّةٌ للحُلم. لم يعد ثَمَّة صور. كان جديراً بالعازفِ أن يبقى داخل قُمْقُمِهِ لتنتشرَ الصورُ وتتكاثف. إنَّه أكثرُ إشراقاً وبروزاً إذا بقي في الدَّاخل، إذا لم يظهر. فالفتاةُ تتمتَّعُ بخيالٍ فاتِن يجعلُ عازفَها يتجدَّدُ ويتعدَّد. تسهرُ على ولادتِه كلَّ لحظة، خاصة حين يكون بعيداً عنها.. في مكانٍ خبيءٍ وقصيٍّ في الذاكرة. تستحضرُه بما تمتلكه من طاقةٍ روحيَّةٍ هائلة. إنها تحييه وتمنحُه أرواحاً كثيرةً في تحوُّلاتِ الصور. لكنْ لماذا التسليم بأنَّ الذهولَ صادمٌ ومنتجٌ لحقيقةٍ مُرَّة؟! لا أحد يعرف شيئاً حقيقياً عن الفتاة والعازف. فلماذا ننتهي إلى نظرةٍ تحبسُ العازفَ، فقط لتُعمِل الفتاةُ خيالَها؟ ربَّما لو أُطلقَ الماردُ من القُمقُم تفجَّر الخيالُ أيضاً. بما أنَّ كلَّ شيءٍ جائزٌ وممكن ولا شيءَ حقيقيٌّ في هذه الحكاية، رغم وجودِ الفتاةِ والعازف، لتكن ثمَّة تهويماتٌ أخرى وشطحاتٌ أكبر. إنَّ حضورَ الصورةِ الفيزيائي في لحظةِ الذهول معادلٌ لحضورِ العازف أمامَ الفتاة. كان لا بدَّ من ظهورِ العازف لتعودَ الصورة، ذلك أنَّ لا أحدَ يملكُها غيرُه، وصورةُ الشاشة تناءتْ ولا يمكن القبضُ عليها. وفي لحظةِ الذهول هذه تلتقي الصورُ والمصادفة:  الصورُ المنتشرةُ، والطاغيةُ على حياةِ الفتاة طوال تلك الأعوام، والمصادفةُ الناتئةُ، في أوَّلِ لقاءٍ متخيَّل، تلتقيان وتسكنان لحظةَ الذهول التي ينجرحُ فيها وعيُ الفتاةِ وينْدمغُ وينْثقِبُ وينْصدِم. وهنا سوف تفقدُ الصورُ جاذبيتَها ليأتيَ ما هو أكثرُ إدهاشاً ووخزاً العازفُ بشحمِه ولحمِه ودمِه!.
هل يعني ذلك تمزيقَ الصُّورِ وإلقاءَها في أقربِ سلِّةِ مُهملات؟! أينتهي دورُها وتكفُّ عن التحريضِ والوخزِ واللَّسْع؟!. إنَّ الفتاةَ ترى العازفَ قد كبُر في لحظةِ مثولِه الحقيقيّ.. كبُر عمَّا كان عليه في الشاشةِ والصورةِ التي يحملُها. عليها أن تدرِّبَ بصرَها ووعيَها على التقاطِ صورةٍ جديدةٍ إذن، إذا ذهبنا بعيداً في لعبةِ الصورِ هذه. الصورةُ الجديدةُ كبيرةُ الحجم فضلاً عن أنَّها حقيقيةٌ وتتطلبُ جهداً كبيراً ومُضنِياً في الالتقاط وتحقيقِ سكونِها داخل وعيِ الفتاة الذي لا تزالُ تصطرعُ فيه الصورُ الأخرى. تكتشفُ الفتاةُ نتوءاً أكبرَ في الصورةِ الحقيقية وبروزاً أغورَ للجُرح. ففي الأعوام التي تقضيها وهي ترعى الصورَ وتجمِّلُها على مَهْل يكون العازفُ قد استبقَ زمنَها وعجَّلَ بتأثيثِ عمرِه وبَذْرِه بالحيوَات. ومن المحتملِ جداً أن تواصلَ الفتاةُ تكديسَ الصورِ حتى آخرِ نَفَس.. ويبقى العازفُ يُؤرجِحُ وجودَه المأزوم بين الصورِ المقطَّعةِ حتى الحدودِ المُفجِعةِ والشَّهيَّة.

زوينة آل تويّه



السبت، 19 ديسمبر 2015

أودّ التحدث إلى أبي


غناء سيلين ديون  
ترجمة زوينة آل تويّه

أودّ أن أنسى الوقت
لتنهيدة، للحظة
أن أستريح بعد العدو
وأذهب حيث يدفعني قلبي

أودّ أن أجد آثاري
أين حياتي، أين مكاني
وأحتفظ بماضيّ الذهبي
في دفء حديقتي السريّة

أودّ أن أعبر المحيط، وأجوبه محلّقةً كالنورس
وأفكّر في كل ما رأيت ذاهبة إلى المجهول
أودّ أن أنزع القمر، أودّ حتى أن أنقذ الأرض
ولكن قبل كل شيء، أودّ التحدث إلى أبي

أودّ أن أختار زورقًا
لا الأكبر ولا الأجمل
سأملؤه بالصور
وبأريج أسفاري

أودّ أن ألتقط أنفاسي وأجلس
لأبحث في تجاويف ذاكرتي  
عن أصوات أولئك الذين علّموني
أنه ما من حلم ممنوع

أودّ أن أجد الألوان واللوحات
في قلبي
تلك التصاميم النقيّة حيث أراك وأطمئن

أودّ أن أرحل معك
أودّ أن أحلم معك
نبحث عن البعيد دومًا
ونتمنى المستحيل دومًا
أودّ أن أنزع القمر
ولِمَ لا أنقذ الأرض
ولكن قبل كل شيء، أودّ التحدث إلى أبي


وداعا موطني


غناء إنغيكو ماسياس
ترجمة زوينة آل تويّه

تركتُ موطني، تركت بيتي
حياتي، حياتي الحزينة التي تنسحب بدون سبب
تركت شمسي، تركت بحري الأزرق
ذكرياتها تستيقظ بعد زمن من الوداع
الشمس، شمس بلادي المفقودة
المدينة البيضاء التي أحببت، الفتيات اللاتي عرفت
تركت صديقة، ما زلت أرى عينيها 
عينيها المبللتين بالمطر، مطر الوداع
أرى ابتسامتها قريبة جدا من وجهي
كانت تضيء أماسي قريتي
ولكن، من على حافة القارب الذي أخذني بعيدا عن المرسى
سلسلة خبطت في الماء مثل عصا
حدقت طويلا في عينيها الزرقاوين الباحثتين
وقد أغرقهما البحر في تيار من الندم 


تحت سماء باريس

غناء إيڤ مونتو
ترجمة زوينة آل تويّه

تحت سماء باريس
تحلّق أغنية
وُلدت توًّا
في قلب فتى
***
تحت سماء باريس
يمشي عشاق
يغشاهم فرح
يولد من لحن
مكتوب لهم 
****
تحت جسر بيرسي
يجلس فيلسوف
وموسيقيان وبعض المتفرجين
ثم يلتمّ الناس ألوفًا
****
وتحت سماء باريس
يغنّون حتى المساء
أغنية الشعب العاشق
مدينتَه العتيقة
****
يحدث أحيانًا
أن تكفهّر السماء
فوق نوتردام
بلى، ولكن في بنام
كل شيء يمكن ترتيبه
قليلٌ من أشعة
 سماء صيفية
وأكورديون  
يعزفه بحار
ليزهر الأمل
في سماء باريس
****
تحت سماء باريس
ينساب نهرٌ مرِح
يهدهد المتشردين والمتسولين
حتى يخلدوا للنوم
****
تحت سماء باريس
تأتي طيور الرب
من العالم كله
وتتسامر فيما بينها
****
ولسماء باريس
 سرّها الخاص
عشرون قرنًا وهي متيّمة
بجزيرة سان لويس
الجزيرة التي عندما تبتسم
تتزيّا السماء بمعطف أزرق
****
 وتمطر في باريس
 لأنها حزينة
وعندما تغار من العشاق الملايين
تبرق وترعد
****
لكن سماء باريس
لا تقسو عليهم طويلا
ولكي تغفر لهم
تسكب عليهم ألوان قوس قزح



بارتلبي النسّاخ

صدرت عن دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع الترجمة العربية لرواية هرمان ملفل القصيرة "بارتلبي النّسّاخ" في عام 2010، ترجمة زوينة آل تويّه


ما رأيكم في شكلي الآن؟



 عن دار بلومزبري-مؤسسة قطر للنشر صدرت في عام 2012 الترجمة العربية لرواية "ما رأيكم في شكلي الآن؟" لكاتبتها رندة عبد الفتّاح ومترجمتها زوينة آل تويّه.
   "ما رأيكم في شكلي الآن؟" الحائزة جائزة الكتاب المُميَّز للناشئة بأستراليا، رواية من 399 صفحة من القطع المتوسط، تخاطب الناشئة من خلال شخصيتها الرئيسة أمل عبد الحكيم. أمل، أسترالية المولد فلسطينية الأبوين، في السادسة عشرة من عمرها، تتمتع بشخصية مرحة وجريئة. عندما تقرّر ارتداء الحجاب تبدأ رحلتها الحقيقية في صراع الهوية، حيث عليها أن تثبت لمن حولها أن الحجاب ليس مجرد قطعة قماش، وأن تواجه القوالب الجاهزة والأفكار المسبقة عن الإسلام والمسلمين في مجتمع غربي يُضلِّله الإعلام والسياسة. هذا الصراع يضعها أيضاً في مواجهة نفسها ومبادئها وأخلاقها لتعيد التفكير في علاقتها بذاتها وبجارتها العجوز اليونانية السيدة "فاسيلي"، وزملائها في مدرستها الأسترالية "مكلينز جرامر" وعلاقتها بالناس من حولها.
   بلغة جزِلة وأسلوب فكاهي سلِس وبسيط، يبتعد عن الصخب والاستعراض، ويناسب عمر أمل، تدخلنا رندة عبد الفتاح إلى عالم المراهقة على نحو شائق، وتسبر حياة أمل وأصدقائها آدم وجوش وإيلين وسيمون وياسمين وليلى، بشكل يجعل القارئ يحترم تجربة هذه المراهقة العربية في مجتمع غربي، فهي في النهاية تمرّ بتجارب قد يمر بها أي مراهق في أي مكان بصرف النظر عن الجنسية أو العرق أو الدين، فعلى الرغم من الخلفيات العرقية والدينية واللغوية المختلفة لأصدقاء أمل وغيرهم من شخصيات الرواية، يتجلَّى العنصر الإنساني على نحو مؤثر في العلاقة بين الجميع. وهكذا تصل أمل إلى قناعة وإيمان راسخين بأن قرارها ارتداء الحجاب يبقى قراراً شخصياً محضاً، وعلاقة خاصة بينها وخالقها، وأنها بسبب هذا القرار توصلت إلى معرفة ذاتها أكثر وإلى معرفة الجميع من حولها بشكل أفضل يبتعد عن النزق والحكم الجاهز.
    وُلِدت رندة عبد الفتاح في أستراليا لأب فلسطيني وأم مصرية. وتعيش في "سيدني" مع أسرتها حيث تعمل في المحاماة. وقد حظي كتاباها "عشرة أشياء أكرهها في نفسي"، و"حينما كانت للشوارع أسماء" بتقدير كبير من القُرّاء والصحافة. ونُشرت كتبها في أكثر من خمس وثلاثين دولة. تعدّ عبد الفتاح من أهم كُتاّب أدب النشء والشباب ومن أكثرهم نجاحاً. 


مقطع من الفصل الأول
(1)
     داهمتني الفكرة بينما كنت أتمرَّن على جهاز المشي الرياضي في البيت، وأشاهد حلقة في مسلسل "فريندز" تُعرَض للمرة التسعين.
    إنه ذلك المشهد الذي ترتدي فيه "جنيفر أنيستون" ثوبَ عروسٍ بشعاً في حفل زفاف صديقها السابق. الكل يهزأ منها وتودُّ لو تهرب وتختبئ. ثم فجأةً تواتيها الشجاعة لتقفز فوق المنصَّة وتغني أغنيةً ما اسمها "كوﭙاكابانا"، أيَّاً ما يكون معناها. أقول لكم، إن هذا المزيج من الحماسة والقوة والاقتناع هو ما جرى في عروقي لحظتها. ضغطت زرَّ الإيقاف للطوارئ، ووقفتُ ببنطالي "الأديداس" القصير والـ"تي شيرت" الذي يحمل صورة "ويني ذي ﭙو"، مأخوذةً تماماً بذلك المشهد. كان ذلك أشبه بأن أخطو إلى خارج غرفة، مغلِقةً الباب ورائي؛ لأخطو إلى غرفة أخرى. في دقيقة واحدة كان ذلك آخر شيء في عقلي، ولكن الآن، وبعد أن تدفقت الشجاعة في داخلي، شعرت بأن الأمر صائب بشكلٍ لا يُصدَّق.
     كنتُ مستعدةً لارتداء الحجاب.
   ذلك صحيح. "ريتشل" في "فريندز" هي التي ألهمتني. سوف يعقد الشيوخ مؤتمرات طوارئ.
   كان ذلك في الرابعة وثلاثين دقيقة بعد ظهر الأمس. إنها الآن الثالثة وعشرون دقيقة صباحاً، وأنا متمدِّدة فوق السرير، أحاول فهم ما إذا كنت مستعدةً حقّاً للمضي في قراري، بينما أشاهد شخصاً في التلفزيون يحاول إقناعي أنني أستطيع -بتسعة وأربعين دولاراً وتسعةٍ وتسعين سنتاً- شراء فتّاحة علب قادرة على تقطيع البطيخ.
    لا أستطيع النوم من ضغط فكرة ما إذا كنت أمتلك الجرأة لفعل ذلك. أن أرتدي الحجاب؛ غطاء الرأس، طوال الوقت. "حجاب بدوام كامل"؛ هو ما أُطلقه أنا وصديقاتي المسلمات على الفتيات اللاتي يرتدين الحجاب طوال الوقت، وهذا يعني أن ترتديه الفتاة عندما تكون في حضرة ذكورٍ ليسوا من أفراد أسرتها الصغيرة. "حجاب بدوام جزئي"؛ مثلي، نرتدي الحجاب كجزء من زيِّنا في المدرسة الإسلامية أو حينما نرتاد المسجد.
    بقيت أربعة أيام من إجازتي المدرسية. أربعة أيام لأقرر ما إذا كنت سأبدأ الفصل الثالث في مدرسة "مكلينز جرامر" فعلاً بحجاب بدوام كامل أم لا. ينبغي أن تعرفوا الآن أن فكرة دخولي المدرسة مرتدية الحجاب تجعل شعر أنفي ينتصب.
وفي هذه المرحلة ربما ينبغي أن تعرفوا أيضا أن اسمي أمل محمد نصر الله عبد الحكيم. يمكنكم أن تشكروا أبي وجدي لأبي وجدي الأكبر على هذا. نعتتني المعلمات بالبطيئة في الروضة؛ لأنني كنت آخر طفلة تتعلم أن تتهجَّى اسمها.

لهذا أكتب

جورج أورويل
ترجمة زوينة آل تويّه



    مُنذُ عُمرٍ مبكِّرٍ جدا، ربما في الخامسة أو السادسة، عرفتُ أنني عندما أكبر ينبغي أن أصير كاتبا. وما بين السابعة عشرة والرابعة والعشرين حاولت نبذ هذه الفكرة، لكنني قمت بذلك وأنا واعٍ أنني أستثيرُ سخطَ طبيعتي الحقيقية وأنني عاجلا أو آجلا سأحسمُ المسألةَ وسأؤلفُ كتبًا.

كنتُ الأوسطَ بين ثلاثةِ أبناء، لكن كان ثمَّة هُوَّة خمس سنوات تفصلني عن كل منهما، وكنت بالكاد قد رأيت والدي قبل بلوغي الثامنة، لهذا وغيره من الأسباب كنت منعزلا إلى حدٍّ ما، وسرعان ما أظهرتُ طباعًا سيئةً جعلتني غيرَ محبوبٍ طوال سنواتِ الدراسة، كانت لديّ عادةُ الطفل المنعزل في اختلاقِ القصص والمحادثات مع أشخاص متخيلين، وأعتقد أن طموحاتي الأدبية كانت تمتزج منذ البداية بشعوري أني معزولٌ ومُبخسُ التقدير، كنت أدرك أن لديَّ براعةً في استخدام الكلمات وقدرةً على مواجهة الحقائق البغيضة، وشعرتُ أن ذلك خلق نوعا من عالم خاصٍّ يعينُني على تحمُّلِ فشلي فيما يتصلُ بشؤون الحياة اليومية، ومع ذلك، فإنَّ حجمَ الكتابة الجادَّة – أي الكتابةِ التي كنتُ جادًّا بشأنِها - التي أنتجتُها خلال طفولتي وصباي لم يكن ليبلغ نصفَ دزينة من الصفحات. لقد كتبتُ أولَ قصيدةٍ عندما كنتُ في الرابعة أو الخامسة، ولم يكن يعني أُمِّي فيها سوى الإملاء، لم أعدْ أتذكَّر شيئا منها سوى أنَّها كانت عن نمرٍ أسنانُه تشبه الكرسيّ.. تعبيرٌ جيِّدٌ بما فيه الكفاية، لكنني أخالُ أن القصيدةَ كانت انتحالا لقصيدةِ بليك "نمر، نمر"، وكتبتُ في الحادية عشرة، عندما اندلعتْ الحرب (1914-1918) قصيدةً وطنيةً نُشِرَتْ في الصحيفةِ المحلية. وبعد عامين كتبتُ أخرى في موتِ كيتشنر. ومن حين لآخر، عندما كبرتُ قليلا، كتبتُ قصائدَ سيئةً عن الطبيعة وغالبا ما كانت تلك القصائدُ غيرَ مكتملة ومكتوبةً بأسلوبٍ جورجي، كما حاولتُ كتابةَ قصةٍ قصيرة كانت إخفاقا مروِّعا، كان ذلك جماعَ ما أردتُ أن يكون عملا جادّا كتبتُه بالفعل طوال تلك السنوات.

غير أني انغمستُ، بمعنى ما، في أنشطةٍ أدبيةٍ خلال ذلك الوقت، وقد تصدَّر ذلك الموادُّ المنتَجةُ بناءً على طلب، والتي أنجزتُها بسرعةٍ وبسهولة وبدون متعةٍ ذاتية. وبعيدا عن العمل المدرسي، كتبتُ ver d’occasion أعمال مناسبات، وتلك كانت قصائد شبهُ هزلية، والتي كان في مقدوري أن أُنتجَها بسرعة، تبدو لي الان، مدهشة-- ففي الرابعة عشرة، كتبتُ مسرحيةً شعريةً مُقفَّاةً كاملة، حاكيتُ فيها أرسطوفان، في حوالي أسبوع -- وساعدتُ في تحريرِ مجلاتٍ مدرسية، مطبوعةٍ ومخطوطة. كانت هذه المجلات من أكثر الأشياء تفاهةً ومحاكاةً هزليةً يمكنك تصوُّرُها، وهذه أبديتُ نحوها اهتماما أقلَّ مما أُبديهِ الآن مع أوضعِ الصحف. ولكن، جنبا إلى جنب مع كلِّ هذا، ولخمسةِ عشر عاما أو أكثر، كنتُ أمارسُ نشاطا أدبيا من نوعٍ مختلفٍ تماما، وقد كان ذلك عملُ تخييل "قصة" متواصلة عنِّي، هي ضرْبٌ من اليوميات الموجودة في المخيِّلة فحسب. أعتقد أنَّها عادةٌ شائعةٌ لدى الأطفال والمراهقين، وكطفلٍ يانِع، اعتدتُ أن أتخيَّلُنِي، لِنقُلْ، روبن هود، وأتصوَّرُ نفسي بطلا في مغامراتٍ مثيرة، ولكن سرعان ما كفَّتْ قصتي عن نرجسيَّتِها الفظَّة وغدتْ بالتدرُّج مجرَّدَ وصفٍ لما كنتُ أفعلُ وأشاهد، وهذا كان يخطرُ لي، خلال ذلك الوقت، لدقائق على نحو من قبيل التالي: " دفعَ البابَ ودلفَ الغرفة، تسرَّبَ شُعاعٌ أصفر من ضوءِ الشمسِ عبر الستائر القطنية، مائلا فوق الطاولة حيث تستريحُ علبةُ كبريتٍ نصفُ مفتوحةٍ قربَ المحبرة، تحرَّك نحو النافذة واضعا يدَه اليمنى في جيبه، وفي الأسفل، في الشارع، كانت هناك قطةٌ سلحفائيةُ الظهر تطارِدُ ورقةَ نباتٍ يابسة، ...الخ، الخ". استمَّرتْ هذه العادةُ حتى بلغتُ الخامسةَ والعشرين من أعوامي اللاأدبية، ورغم أنه كان عليَّ أن أبحثَ وهذا ما فعلتْ، عن الكلمات الصحيحة، إلا أنني كنت أقوم بهذا الجهد الوصفي ضد رغبتي تقريبا وتحت إكراهٍ خارجي. أفترض أن "القصة" جاءت انعكاسا لأساليب كتَّاب عدَّة أُعجبتُ بهم في مراحلَ مختلفةٍ من عمري، لكنَّها، بالقدر الذي أستطيع تذكُّرَ الأمرِ به، كانتْ دوما تحملُ نفسَ الجودةِ الوصفيَّةِ الدقيقة.
عندما بلغتُ نحوا من السادسة عشرة، اكتشفتُ فجأةً متعةَ الكلمات لذاتِها، وأعنِي بذلك مسمَعَها وتداعياتِها، إنَّ هذه السطورَ من "الفردوس المفقود":
وهكذا رافقَ المشقَّةَ البالغةَ والصِّعابَ في رحلتِها
ورافقتهُ المشقَّةُ البالغةُ والصعاب.. [1]
والتي لا تبدو لي الآن رائعةً جدا، كانت تبعثُ القشعريرةَ في جسدي، كما أنَّ تهجئةَ الضميرhee)) بدلا من (he ) "هو" كانت متعةً إضافية، أما بالنسبة للحاجةِ لوصفِ الأشياء فذلك ما كنتُ أعرفهُ مسبقا، ولذلك يتضح أيُّ نوعٍ من الكتب كنتُ أرغبُ في كتابته، وذلك بالقدر الذي يمكن به القولُ أنني كنتُ راغبا في كتابةِ كتب. كنتُ أرغبُ بكتابة رواياتٍ طبيعيةٍ ضخمة، ذات نهاياتٍ حزينة، مَلأى بوصوفٍ مفصَّلةٍ وابتساماتٍ آسِرة، وكذلك ملأى بمقاطعَ منمَّقةٍ تُستخدَم فيها الكلماتُ جزئيا لأجلِ خاطر مسمعِها، وفي الحقيقة أنَّ روايتي الأولى التي أكملتُ كتابتَها "أيامٌ بورمية" والتي أنجزتُها عندما كنتُ في الثلاثين رغم أنني خططتُ لكتابتِها قبل ذلك بكثير هي بالأحرى من هذا النوع من الكتب الذي أردتُ أن أكتبْ.

أقدِّمُ كلَّ هذه المعلومات حول خلفيتي لأنني لا أعتقدُ أنه بإمكانِ المرءِ تقييمَ دوافعِ كاتبْ ما لمْ يعرفْ شيئا عن نُموِّهِ المبكِّر، فالموضوع الذي يتناوله الكاتب يحدِّدُه بالعصر الذي يعيش فيه- يصحُّ هذا على الأقل، في العصور الثوريَّةِ الهائجةِ كعصرِنا- لكنَّه قبل أن يبدأ بالكتابة سيكون قد اكتسبَ موقفا انفعاليا لن يتمكنَ من الإفلاتِ منه بالكامل، وبدون شكّ، فإنَّ من واجبِه ضبطَ مزاجِهِ وتفادي التورط في طورٍ غير احترافي، وفي حالٍ غير طبيعي، لكنه إذا ما أفلتَ تماما من مؤثراتِهِ المبكِّرة بالكامل، فإنه سيكون قد قتلَ حافزَ الكتابةِ لديه، إذا ما طرحنا الحاجةَ لكسبِ العيشِ جانبا، أعتقد أنَّ هناك أربعةَ دوافع كبرى للكتابة -- الكتابةِ النثرية، في أية حال، وتحضرُ هذه الدوافعُ بدرجاتٍ متفاوتةٍ عند كلِّ كاتب وتتنوعُ نسبُها لدى الكاتب نفسِه من حين لآخر، وفقا للمناخِ الذي يعيش فيه.

هذه الدوافعُ هي:
1. الأنويَّةُ الصرف:
  الرغبةُ في أن تبدوَ ذكيا، أن يتحدث عنك الآخرون، أن تُذكَرَ بعد الموت، أن تنتقمَ من الكبار الذين نهروك في طفولتِك، ..الخ، الخ. إنه لدجلٌ ادّعاءُ أن ذلك ليس حافزا قويا. يشترك الكُتَّابُ في هذه الخاصيةِ مع العلماء والفنانين والسّاسةِ والمحامين والجنود ورجالِ الأعمال الناجحين، باختصار مع كل الشرائحِ البارزةِ للمجتمعِ البشري. إن الغالبيةَ العظمى من البشر ليست بالغةَ الأنانية، فبعد الثلاثين أو نحو ذلك يكفُّ الناسُ تقريبا عن الشعورِ بكونِهم محضُ أفراد مستقلين، ويعيشون غالبا لأجل آخرين، أو أنَّهم ببساطة يخمدون تحت وطأةِ الكدْح، لكن بالمقابل هناك الأقليَّةُ الموهوبةُ والعنيدةُ والمُصرَّةُ على الحياةِ حتى النهاية، والكتَّابُ ينتمون إلى هذه الفئة، وعليَّ قولُ أنّ الكتَّابَ الجادِّين هم إجمالا أكثرُ تفَهَاً وتمركزا حول ذواتِهم من الصحفيين على الرغم من أنهم أقلُّ رغبةً في المال.

2. التحمُّسُ الجمالي:
إدراكُ الجمالِ في العالم الخارجي، أو، من ناحية أخرى، في الكلماتِ وترتيبِها الصحيح. اللَّذةُ في تأثيرِ صوتٍ معين، في تماسكِ قصيدةِ نثرٍ بارعٍ أو إيقاعِ قصةٍ جيدة، الرغبةُ في البوحِ بتجربةٍ يشعرُ الكاتبُ أنَّها قيِّمةٌ ولا ينبغي تضييعَها، إنَّ الحافزَ الجماليَّ واهنٌ جدا لدى الكثير من الكتَّاب، رغم أنَّ حتى الكراريسيّ أو مؤلف الكتب المدرسية لديه كلماتٌ وعباراتٌ أثيرةٌ تروقُ له لأسباب غير نفعيَّة أو قد يوجد لديه إحساسٌ قويٌّ بجماليةِ تنضيدِ وصفِّ المادةِ المطبوعة، بعرضِ الهوامش...الخ، الخ، وما من كتابٍ يرتقي في مستواه عن مستوى دليلِ السككِ الحديديةِ يخلو تماما من الاعتباراتِ الجمالية.

3. المُحفِّزُ التاريخي:
الرغبةُ في رؤيةِ الأشياء كما هي، إيجادُ الحقائق وادِّخارُها للأجيالِ القادمة.

4. الغرضُ السياسي:
استخدامُ – أعني هنا - كلمة "سياسي" في أوسع معانيها، الرغبةُ في دفعِ العالم نحو وجهةٍ معينة، تغييرُ أفكارِ الناس حول طبيعةِ المجتمع الذي ينبغي لهم الكفاحُ لأجلِه، مرَّةً أخرى، ما من كتابٍ يخلو بحقٍّ من محاباةٍ سياسية، إنَّ الرأيَ القائلَ بأنْ لا علاقةَ للفنِّ بالسياسة، هو في حدِّ ذاتِه موقفٌ سياسي.
يمكن رؤيةُ كيف تُصارعُ هذه الدوافعُ المختلفةُ بعضها بعضا وكيف لا بدَّ من أنْ تتذبذبَ من شخصٍ لآخر ومن زمنٍ لآخر، وبالطبيعة – التي أعني بها ما أصبحتَ عليه يوم أن بلغتَ سنَّ الرشد - أنا شخصٌ تَبزُّ فيه الدوافعُ الثلاثةُ الأولى الرابع، لو كنتُ أحيَا في زمنٍ سِلميٍّ لربَّما كنتُ قادرا على كتابةِ كلامٍ مُنمَّقٍ أو كتبٍ وصفيَّةٍ فحسب ولربما بقيتُ تقريبا جاهلا بولاءاتي السياسية، لكنَّ ما حدث هو أنني اضطُرِرتُ أن أكون نوعا من كاتبِ كراريس. 
ففي البدايةِ قضيتُ خمسَ سنواتٍ في مهنةٍ غيرِ مناسبة (الشرطةُ الإمبرياليةُ الهنديةُ في بورما)، ثم عانيتُ الفقرَ والإحساسَ بالفشل، مما ضاعفَ كُرهي الفطري للسلطة وجعلني للمرة الأولى واعيا تماما بوجودِ الطبقاتِ العاملة، ومكَّننِي العملُ في بورما من فهم طبيعةِ الإمبريالية، لكنَّ هذه التجاربَ لم تكنْ كافيةً لتمنَحني توجها سياسيا دقيقا. ثم جاء هتلر، والحربُ الأهليةُ الأسبانية.. الخ، ومع نهايةِ عام 1935 كنتُ لا زلتُ غيرَ قادرٍ على التوصلِ إلى قرارٍ حازم. أتذكَّرُ قصيدةً صغيرةً كتبتُها في ذلك التاريخ، مُعبِّرا فيها عن حيرتي:
ربَّما كان من الممكن
قبلَ مائتي سنةٍ خَلَتْ
أن أكون كاهنا سعيدا
يُبشِّر بالدنيويةِ الأبديَّة
بينما يرقبُ جوزاتِه وهي تنمو

أما لأنِّي، واحسرتاه، ولدتُ
في زمنٍ شرِّير
فقد تأخرتُ عن إدراكِ ذلك المأوى
لأن الشَّعرَ نَمَا فوق
شفتي العليا
بينما رجالُ الدِّين
شعورُهم حليقةٌ بعناية

ولاحقا كانت الأيامُ ما تزال طيبةً
وكان من اليسير إسعادُنا
وكنَّا نؤرجحُ أفكارَنا القلقة
لتنامَ في أحضانِ الأشجار

في جهلِنا
جرؤنا على تملُّكِ الغبطة
التي نتظاهرُ بها الآن
بينما عصفورُ الخضيري
على غصنِ شجرةِ التفاح
قادرٌ على أن يجعلَ أعدائي يرتعشون

لكنَّ بطونَ الصبايا وثمارَ المشمش
وأسماكَ الروشِ في الجداولِ الظليلة
والخيولَ، والبطَّ وهو يطيرُ في الفجر
كلُّ ذلك حلم

محرَّمٌ علينا أن نحلمَ من جديد
إننا نعطِّلُ أفراحَنا أو نخبِّئُها
فالخيولُ مصنوعةٌ من فولاذِ الكروم
وأقزامٌ بدينون هم من سيمتطونَها

أنا الدُّودةُ التي لم تلتفتْ أبدا
المخصيُّ بلا حريم
ومثلُ يوجين آرام
أمشي بين القسِّ والمفوَّضِ الشرعي

وكان المفوَّضُ يقرأُ حظِّي
فيما المذياعُ يعمل
غير أنَّ القسَّ وعدَ بأوستن سيفن
لأنَّ دوجي يدفعُ دوما

حلُمتُ أنني سكنتُ في قاعاتٍ مرمرية
وحين أفقتُ
وجدتُ أنَّ ذلك صحيح
لم أُولدْ لزمنٍ كهذا
أوُلِدتُم لزمنٍ كهذا؟

الحربُ الإسبانيةُ وأحداثٌ أخرى في 1936-1937 قلبتْ الموازين، وبعد ذلك أدركتُ أين أقفْ. كلُّ سطرٍ كتبتُه في عملٍ جادٍّ منذ عام 1936 كان بشكلٍ مباشرٍ أو غيرِ مباشر ضدَّ التوليتارية ومع الاشتراكيةِ الديمقراطيةِ كما أفهمُها، يبدو لي أنَّه من الهُراءِ التفكير بتجنُّبِ الكتابةِ في هذه الموضوعات في زمنٍ كزمنِنا. كلُّ فردٍ يكتبُ عنها ضمنَ تمرءٍ أو آخر، إنَّ الأمرَ، ببساطة هو مسألةُ الجانبِ الذي يقفُ فيه المرءُ وأيُّ نهْجٍ ينحُو، فكلَّما كان المرءُ أكثرَ دِرايةٍ بأهوائِهِ السياسية، تهيَّأتْ له فرصةُ العمل فيما يخصُّ الأداءَ السياسي من دون التضحيةِ بكرامتِهِ الجماليةِ والفكرية.
إنَّ أكثرَ ما رغبتُ القيامَ به طوالَ العشر سنوات الأخيرة هو جعلُ الكتابةِ السياسيةِ فنًّا، أنطلقُ إلى ذلك، دوما، من شعورٍ بالمشايعةِ السياسيةِ وإحساسٍ بالظلم. عندما أجلسُ كي أكتبَ كتابا لا أقولُ لنفسي: "سأنتجُ عملا فنِّيّا"، أكتبُ لأنَّ ثمَّة كذبةً أرغبُ فضحَها، ثمَّة حقيقةٌ أريد لفتَ الانتباه إليها، وهمِّي الأول هو أنْ أظفرَ بسماعِ مختلفِ الشهاداتِ والحجج، لكنني أيضا لا أستطيعُ كتابةَ كتابٍ أو حتَّى مقالٍ طويلٍ في مجلَّة ما لم يكنْ الأمرُ تجربةً جمالية. إنَّ أيَّ شخصٍ تهمُّهُ معاينةُ عملي سيلاحظ أنَّه حتى لو عندما يكون عبارةً عن دعايةٍ صرف، فإنَّه يحوي الكثيرَ مما قد يعتبرُهُ سياسيٌّ محترف غيرَ ذي شأن. إنني لا أستطيعُ ولا أرغبُ أبدا في التنازلِ عن نظرتي للعالم التي اكتسبتُها في الطفولة، وسأظلُ أحملُ شعورا قويّا للأسلوبِ النثري وأحبُّ وجهَ الأرض وأجدُ الَّلذةَ في الأشياءِ الجامدةِ وفتاتِ المعلوماتِ التافهةِ ما دمتُ حَيًّا مُعافى، إذ لا فائدةَ من قمعِ ذلك الجانبِ في نفسي، عليَّ أنْ أُصالحَ رغباتي فيما أحبُّ وأكرهُ مع النشاطاتِ الجوهريةِ العامةِ غيرِ الفرديةِ والتي يفرضُها عصرُنا علينا جميعا.

ليس ذلك سهلا، إذ أنه يثيرُ إشكالياتِ البناءِ واللغة، كما أنَّه يثيرُ بشكلٍ جديدٍ إشكاليةَ الصدق. لأعطِ فقط مثالا واحدا على الجانبِ الفظِّ من الصعوبةِ التي تطرأ، كتابي عن الحربِ الأهليةِ الإسبانية (تقديرا لكتالونيا) هو بالطبع كتابٌ سياسيٌّ بصورةٍ صريحة، لكنَّه، في الآنِ ذاتِه، كُتِبَ في الأساس بِتجرُّدٍ معين واحترامٍ للشكل، لقد حاولتُ جاهدا أنْ أقولَ فيه الحقيقةَ كاملةً من دونِ أن يكونَ ذلك على حسابِ فطرتي الأدبيةِ الأصليَّة، غيرَ أنَّه، ضمن أشياء أخرى، يضمُّ فصلا طويلا، مليئا باقتباساتٍ من الصحفِ وما شابه، أدافعُ فيه عن التروتسكيين الذين اتُهِمُوا بالتآمر مع فرانكو. من الواضح أنَّ مثلَ هذا الفصل - الذي سيفقدُ أهميَّتَه لدى أيِّ قارئ عادي بعد سنة أو اثنتين - سيقضي على الكتاب، وقد وبَّخَنِي ناقدٌ أحترمُهُ قائلا: "لماذا أقحمتَ كلَّ هذا الكلام؟، لقد جعلتَ ما كان يمكنُ أن يكونَ كتابا جيدا عملا صحفيا "، كان ما قاله صحيحا، ولكنْ لم يكنْ أمامي خيارٌ آخر،  فقد صادفَ أنْ عرفتُ ما سُمِحَ بمعرفتِهِ لدى قلَّةٍ قليلةٍ من الناس في انجلترا، وذلك هو أنَّ رجالا أبرياءَ اتُهِمُوا غدرا، وما كنتُ لأكتبَ هذا الكتابَ لو لم أكنْ غاضبا من ذلك.

وأخذتْ إشكاليةُ اللغةِ هذه تتكررُ بشكلٍ أو بآخر، وهي أكثرُ دقةً وبحاجةٍ إلى شرحٍ يطولْ، لكنني سأكتفي بالقول أنني حاولتُ في السنواتِ الأخيرةِ الكتابةَ بتصويرٍ أقل ودقةٍ أكثر. وفي أيَّةِ حال فإنني أجدُ أنَّه في الوقتِ الذي تتمكَّن فيه من أسلوبٍ كتابي، فإنك تتجاوزه دوما. كان "مزرعة الحيوانات" أولَ كتابٍ حاولتُ فيه دمجَ الغرضِ السياسي بالفنِّي وأنا واعٍ تماما بما أقوم، لم أكتبْ روايةً منذ سبعِ سنوات، لكنني آملُ كتابةَ واحدةٍ قريبا نوعا ما. ومن المحتَّم أن يكونَ ذلك إخفاقا، فكلُّ كتابٍ إخفاق، لكنني أعلمُ بشكلٍ جليٍّ أيَّ نوعٍ من الكتبِ أرغبُ بالكتابة. وبالنظرِ إلى الصفحاتِ الأخيرة، أرى أنَّ ذلك كان واضحا كما لو أنَّ دوافعي في الكتابةِ كانت مفعمةً بحُبِّ العملِ للمصلحةِ العامة، لا أرغبُ أن يكون ذلك انطباعا نهائيا. جميعُ الكُتَّاب تَفِهُون وأنانيون وكُسالى، وثمَّة لغزٌ يقبعُ في أعمقِ أعماقِ دوافعِهم، إنَّ كتابةَ كتابٍ شيءٌ مرعبٌ ومضنٍ، أشبهُ بنوبةٍ طويلةٍ من مرضٍ موجِع، إنَّ المرءَ ما كان سيأخذ على عاتِقِه القيامَ بذلك لو لم يكنْ مدفوعا بروحٍ عفريتيةٍ لا يرومُ مقاومتَها أو فهمَهَا، حيث أنَّ كلَّ ما يعرفُهُ هو أنَّ تلك الروحَ هي ببساطةٍ نفسُ الغريزةِ التي تدفعُ طفلا للصراخ للفتِ الانتباه، ومع ذلك قد يبدو صحيحا أيضا أنَّ المرءَ قد لا يكتبُ ما يستحقُّ القراءةَ ما لم يسعَ جاهدا لطمسِ شخصيتِهِ، والنثرُ الجيِّدُ يشبه اللوحَ الزجاجي. لستُ متيقِّنا أيًّا من دوافعي هو الأقوى، لكنني أعلمُ أيُّها يستحقُّ الاتباع، وعندما أنظرُ إلى أعمالي أجدُ أنَّه مُقفِرٌ منها ما يعوزُهُ المغزى السياسي، وأنني وقعتُ في فخِّ مقاطعَ منمَّقَة، جملٍ بلا معان، ونعوتٍ مزخرفةٍ وخادعةٍ عموما.




[1]  السطران من الكتاب الثاني من "الفردوس المفقود"، ملحمة الشاعر الإنجليزي جون ميلتون، ترجمة وتقديم د. محمد عناني، الجزء الأول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1982
http://orwell.ru/library/essays/wiw/english/e_wiw

صورة لأفريقيا: العنصرية في «قلب الظلام» لِكونراد






تشينوا أتشيبي
ترجمة زوينة آل تويّه 

في أحد أيام خريف 1974 كنت أمشي من قسم اللغة الإنـﮔليزية في جامعة ماساتشوستس باتجاه موقف السيارات. كان صباحًا خريفيًّا رائقًا يشجّعك على أن تكون ودودًا مع الغرباء المارّين. شباب مفعمون بالحياة ينطلقون في كل الاتجاهات، واضحٌ أن كثيرًا منهم في سنواتهم الدراسية الأولى وفي فورة حماسهم الأولى. عندما استدرتُ كان هناك مُسنّ يمشي في الطريق نفسه، أبدى لي ملاحظته عن مدى صغرهم هذه الأيام. وافقتُه. ثم سألني عمّا إذا كنت طالبًا أنا الآخر. أجبته: لا، إنّني معلِّم. ماذا أُدرِّس؟ الأدب الأفريقي. قال إنّ ذلك طريفٌ لأنه يعرف شخصًا يُدرِّس الشيء ذاته، أو لعلّه التاريخ الأفريقي، في كليّة محليّة ليست ببعيدة من هنا. طالما أدهشه ذلك - مضى في حديثه - لأنه لم يفكّر قطّ أن يكون في أفريقيا هذا النوع من الأشياء، أنت تعرف. عند هذه اللحظة أخذت أغذُّ السير أكثر. أخيرًا سمعته يقول وهو خلفي: أوه حسنٌ، أعتقد أنه ينبغي لي أن أَدْرُس مقرّرك كي أستكشف الأمر. بعد بضعة أسابيع تلقّيت رسالتين مؤثّرتين جدًّا من طالبين في مدرسة ثانوية في يونكرز بنيويورك، كانا – بارك الله في مُعلِّمهما - قد قرءآ توًّا (أشياءٌ تتداعى)، أحدهما كان سعيدًا على الأخص بتعرُّفه عادات قبيلة أفريقية وخرافاتها.
عبر هذه المصادفات التافهة بالأصح، أعتزم الخروج بنتائج رصينة بالأصح، قد تبدو للوهلة الأولى أمرًا مبالغًا فيه نوعًا ما بالنسبة إليهم. ولكنني آمُل أنها تبدو كذلك للوهلة الأولى فقط. يبدو جليًّا أن الصبي الصغير من يونكرز -ربما بسبب سنّه إلى حدٍّ ما، لكنني أعتقد أيضًا لأسباب أخرى أكثر عمقًا وجِدًّا- غيرُ واعٍ بأن حياة قبيلته في يونكرز بنيويورك مُتخمةٌ بالعادات والخرافات الغريبة، ويتخيّل مثل الجميع في ثقافته، أنه بحاجة إلى رحلة إلى أفريقيا لمصادفة تلك الأشياء.
أما الشخص الآخر، الذي في عمري تمامًا، فلا يمكن إيجاد العذر له على أساس سنوات عمره. قد يكون الجهل السبب الأكثر رُجُوحًا، لكنني أعتقد هنا، مرة أخرى، أن ثمّة شيئًا مُتعمَّدًا أكثر من كونه مجرد افتقار للمعلومات. أيضًا، ألم يُعلن ذاك المؤرخ البريطاني الواسع المعرفة والأستاذ الملكي في أوكسفورد، هيو ترِﭭر روﭘر، أن تاريخ أفريقيا غير موجود؟
إذا كان ثمّة شيء في هذه التصريحات أكثر من قلّة تجربة غضّة، أكثر من افتقار إلى معرفة واقعية، فما هو؟ إنه ببساطة تامّة رغبة- قد يقول المرء حاجة حقًّا- السيكولوجيا الغربية في تقديم أفريقيا كخلفيّة لأوروﭙـا، وكمكان سلبِّي كان فيما مضى بعيدًا ومألوفًا على نحو مبهم، في مقارنة تُبرز ما عليه وضع أوروﭙـا من نعمة روحانية. هذه الحاجة ليست بجديدة، حالة تعفينا جميعًا من مسؤولية هائلة، وقد تجعلنا غير راغبين حتى في النظر إلى هذه الظاهرة على نحوٍ عاطفي. ليست لدي الرغبة ولا الكفاءة في الشروع في استخدام أدوات العلوم الاجتماعية والبيولوجية، بل ببساطة أكثر في طريقة استجابة روائي لكتاب شهير في السرد الأوروبي: (قلب الظلام) لِجوزيف كونراد، الذي يصوِّر أفضل من أي عمل آخر فيما أعرف، تلك الرغبة والحاجة الأوروﭙيتين اللتين أشرت إليهما توًّا. هناك بالتأكيد مكتبات كاملة من الكتب المكرّسة للغرض ذاته، لكن معظمها من الوضوح والبساطة إلى حدّ أن قليلًا من الناس يعبأ بها اليوم. إن كونراد، من ناحية أخرى، بلا شك، أحد الأسلوبيين الكبار في السرد الحديث وقصّاص جيد فوق ذلك. وعليه، تقع إسهاماته تلقائيًّا ضمن فئة مختلفة –الأدب الدائم- يقرؤها أكاديميون جادّون ويدرّسونها ويقيِّمونها باستمرار. إن (قلب الظلام) في مأمن اليوم إلى حدّ أن باحثًا رائدًا في أدب كونراد عدّها "بين أعظم نصف دزينة من الروايات القصيرة في اللغة الإنـﮔليزية". سوف أعود إلى هذا الرأي الحاسم في الوقت المناسب لأنه قد يعدّل على نحوٍ جادّ من افتراضاتي السابقة حول من قد يكون مذنبًا أو لا يكون في بعض المسائل التي سأثيرها الآن.
تعطي (قلب الظلام) صورة عن أفريقيا أنها "العالم الآخر"، النقيض لأوروﭙـا، ومن ثَمَّ للحضارة، مكان تهزأ فيه الوحشية الظافرة أخيرًا من ذكاء الإنسان وتحضّره المتبجِّحيْن. ينفتح الكتاب على نهر التَّيمز، هادئًا وساكنًا بسلام «مع انقضاء النهار، بعد أزمان من الخدمات الطّيبة المُسداة إلى السلالة التي قطنت ضفافه»(1). بَيْد أن القصة الحقيقية ستأخذ مجراها في نهر الكونغو، النقيض الكلّي للتَّيمز. نهر الكونغو ليس نهرًا فخريًّا من غير ريب بالفعل، فهو لا يقدّم أية خدمات ولا يتمتّع بأجر تقاعدي في شيخوخته. يُقال لنا إن «عبور ذلك النهر أشبه بالسفر إلى الخلف، إلى البدايات المبكّرة للعالم».
هل يقول كونراد إذن إن ذينك النهرين مختلفان جدًّا، أحدهما خيِّر والآخر سيِّئ؟ نعم، ولكن ليست تلك هي المسألة الحقيقية. ليس الاختلاف ما يقلق كونراد، وإنما التلميح الكامن في القرابة، في الأصل المشترك. ذلك أن التَّيمز أيضًا «كان واحدًا من الأماكن المظلمة على الأرض». قهر الظلام، بالتأكيد، وهو الآن في وضح النهار وفي سلام. لكنه إذا ما زار قريبه البدائي، الكونغو، فإنه سيتعرض للمخاطرة المرعبة بسماع الأصداء الغريبة لظلامه المنسي، وسيقع ضحية نوبة انتقام آتيةٍ من هياج البدايات الأولى المجنون.
هذه الأصداء المُوحية تشكّل استحضار كونراد الشهير للجو الأفريقي في (قلب الظلام). في المراجعة الأخيرة للفكرة لا تبلغ طريقته أكثر من تكرار مطّرد ومضجر، وشعائري زائف لجملتين متضادتين، إحداهما عن الصمت والأخرى عن الهياج. يمكننا معاينة نموذجين لذلك في الصفحتين 36 و37 من الطبعة الحالية: أ- «إنها سكينة قوة عنيدة تواري نيّة مُبهمة» و، ب- «تقدَّمت الباخرة ببطءٍ على حافة هياج أسود مُبهم». هناك بالتأكيد تغيير حكيم للصفة من حين لآخر، بحيث إنك قد تجد عوضًا عن (مبهم)، مثلا، (لا يوصف)، وحتى (غامض بشكل صريح)، إلخ إلخ.
استرعى الناقدُ الإنـﮔليزي النافذ البصيرة، إف. آر. ليـﭬِس، الانتباهَ منذ مدة طويلة إلى «إصرار كونراد الوصفي على غموض لا يوصف وغير مفهوم.» لا ينبغي الاستخفاف بذلك الإصرار -كما يميل العديد من نقّاد كونراد إلى ذلك- بأنه مجرد عيب أسلوبي، ذلك أنه يثير تساؤلات جادّة عن حسن الاعتقاد الفني. عندما يتظاهر كاتب ما بتسجيل مشاهد وأحداث وآثارها الناجمة، فإنه في الواقع ينخرط في إحداث خدر منوّم في قُرائه من خلال قصف من الكلمات الانفعالية وأشكال أخرى من الخداع تكون أكثر بكثير على المحكّ من اللباقة الأسلوبية. إن القُرّاء العاديين عمومًا مسلّحون جيّدًا لكشف مثل هذه الممارسة الماكرة ومقاومتها. غير أن كونراد اختار موضوعه جيّدًا بحيث يضمن ألا يضعه في صراع والاستعداد النفسي لقُرَّائه، أو يُبرز حاجته إلى مكافحة مقاومتهم. لقد اختار دور مُموِّن الأساطير المُطمئِنة. مع ذلك، فإن أكثر الفقرات إثارة للاهتمام والكشف في (قلب الظلام) هي عن الناس. يجب أن ألتمس العذر من قارئي باقتباس ما يقرب من صفحة كاملة من حوالي منتصف الرحلة/ عندما يصادف ممثلو أوروبا في باخرة متجهة إلى الكونغو سكّانَ أفريقيا.
«كنّا هائمين على أرض ما قبل التاريخ، على أرضٍ اكتست بهيئة كوكب مجهول. كان بوسعنا تخيُّلُ أنفسِنا أوّلَ من استولى على إرثٍ ملعونٍ لإخضاعه على حساب ألمٍ عميقٍ وعملٍ شاقّ. ولكن فجأة، وبينما كنّا نصارع لاجتياز منعطف، تبدَّت أسوارٌ من نبات الأسَل، أسقفٌ معشوشبة ناتئة، انفجارٌ من الصرخات، دوامةٌ من الأطراف السوداء، حشدٌ من الأيادي المصفّقة، والأقدام الخابطة، والأجساد المتمايلة، والعيون المتقلّبة، تحت أوراق النباتات الكثيفة الساكنة المتدليّة. تقدّمت الباخرة ببطءٍ على حافة هياج أسود مُبهم. كان إنسان ما قبل التاريخ يلعننا، يتضرّع إلينا، يرحّب بنا، من يدري؟ كنّا معزولين عن فهم ما حولنا؛ انزلقنا بعيدًا مثل أشباح، متعجّبين ومذعورين على نحو خفيّ، كما يكون رجال سليمو العقل قبل دخولهم نوبة حماس في مستشفى للمجانين. لم نفهم لأننا كنا بعيدين جدّا، ولم نتذكّر لأننا كنا نسافر عبر ليل العصور الأولى، تلك العصور التي ولّت، ولم تكد تترك إشارة وراءها، ولا ذكريات.
بدت الأرض غير أرضية. كنَّا معتادين النظر إلى هيئة مسخٍ مهزومٍ ومُكبَّل، ولكن هناك، هناك يمكنك النظر إلى شيء ممسوخ وحُرّ. كان ذلك غير أرضي وكان الرجال ... لا لم يكونوا لابشريين. حسنٌ، ذلك أسوأ ما في الأمر، هذا الشك في عدم كونهم لابشريين. يتكوّن هذا الشك ببطء لدى المرء. كانوا يولولون ويقفزون ويدورون مقطّبين وجوهًا مفزعة، لكن ما هزّك كان مجرّد التفكير في إنسانيتهم –كإنسانيتك-، التفكير في قرابتك البعيدة إلى هذا الصخب البرّي المنفعل. بشع. نعم، كان ذلك بشعًا بما يكفي، بيد أنك إن كنت جريئًا بما يكفي ستعترف لنفسك بأن في داخلك استجابة ذات أثرٍ باهتٍ فقط لصراحة ذاك الصخب المروّعة، شكًّا غامضًا بوجود معنىً في ذاك الصخب الذي باستطاعتك أنت – أنت النائي كثيرًا عن ليالي العصور الأولى- فهمه».
هنا يقبع مغزى (قلب الظلام)، والافتتان الذي تفرضه على العقل الغربي: «ما هزّك كان مجرّد التفكير في إنسانيتهم –كإنسانيتك ... بشع». بعد أن أَطْلَعنا كونراد على أفريقيا في مجموع البشر، يركّز في نصف صفحة، لاحقًا، على مثال محدّد، ليعطينا أحد أوصافه النادرة لأفريقي لم يكن مجرد أوصال أو عينين تتقلّبان: «وبين الفينة والأخرى، كان عليّ مراقبة المتوحش الذي يزوّد الباخرة بالوقود. كان عيّنة محسّنة؛ باستطاعته إيقاد مرجل بخاري عمودي. كان هناك، في الأسفل، وبالفعل، كان النظر إليه مُسلِّيًا، كالنظر إلى كلب ببنطال قصير وقبعة من الريش في عرض ساخر، ويمشي على قائمتيه الخلفيتين. كانت بضعة أشهر من التدريب كافية لذلك الفتى البارع حقًّا. عاين مقياس الضغط البخاري ومقياس منسوب الماء بجهد جسور واضح. لقد صقل أسنانه أيضًا، هذا الشيطان المسكين، وحلق شعر رأسه الأجعد في أشكال غريبة، وهناك ثلاثة ندوب تزيينية على خديّه. كان يجدر به أن يكون عند ضفة النهر يصفّق بيديه ويخبط برجليه، بدلًا من أن يكون مثابرًا في العمل، تحت سطوة سحرٍ غريبٍ مليءٍ بمعرفة متطوّرة».
كما يعلم الجميع، إن كونراد رومانسي أيضًا. قد لا يُعجَب تمامًا بالمتوحشين وهم يصفّقون بأكفّهم ويخبطون الأرض بأقدامهم، لكنّ لهم، على الأقل، مَيزة وجودهم في أماكنهم، خلافًا لهذا الكلب (ببنطال قصير وقبعة من الريش في عرض ساخر). بالنسبة إلى كونراد، أن تكون الأشياء في أماكنها أمرٌ في غاية الأهمية.
يخبرنا بوضوح: «أشخاص رائعون -أكلة لحوم البشر- في أماكنهم». تبدأ المأساة عندما تغادر الأشياء مكانها المعتاد، كأوروﭙـا لمّا تغادر معقلها الآمن بين الشرطي والخبّاز لتختلس النظر إلى قلب الظلام. قبل أن تلج بنا القصة إلى حوض الكونغو، من المناسب أن نُعطَى هذا الوصف الموجز الجميل كمثال على الأشياء في أماكنها: «بين الحين والآخر، يمنح قاربٌ آتٍ من الشاطئ المرءَ اتصالًا خاطفًا بالواقع. كان يجذّفه أشخاص سود. يمكنك أن ترى من بعيد تلألؤ بياض مُقلهم. كانوا يصرخون، يغنّون؛ أجسامهم تتصبّب عرقًا؛ وجوههم تشبه أقنعة بشعة -هؤلاء الرجال- لكنّ لهم عظامًا، وعضلات، وحيويّة بريّة، وطاقة كبيرة في الحركة، طبيعية وخفيفة كالأمواج المتكسّرة على طول ساحلهم. لا يحتاجون إلى تبرير وجودهم هناك. كان النظر إليهم راحة كبرى».
مع نهاية القصة، يكرّس كونراد صفحة كاملة، بشكل غير متوقع مطلقًا، لامرأة أفريقية بدا واضحًا أنها كانت على نحو ما عشيقة السيد كيرتز، وتشرف الآن (إذا أُجيز لي بعض الحرية) مثل لغز مرعب على رحيله الوشيك الذي لا يرحم: «كانت متوحشة ورائعة، بعينين جامحتين ومذهلتين ... وقفت تنظر إلينا دون حراك، وكالبريّة ذاتها، بملامح تواري نيّة مبهمة». رُسمت هذه الأمازونية بقدر كبير من التفصيل -وإن كان ذلك بطبيعة يمكن التنبؤ بها- لسببين. الأول، أنها في مكانها وبذلك يمكنها كسب العلامة الخاصة بموافقة كونراد، والثاني، أنها تفي بالشرط البنيوي للقصة: نظير وحشي للمرأة الأوروﭙية المهذّبة التي ستتقدّم لإنهاء القصة: «تقدّمت متّشحةً بالسواد وبوجه شاحب، طافيةً نحوي في الغسق. كانت في حِداد ... أخذت كلتا يديّ بين يديها وتمتمت: سمعت أنك أتيت ... كانت لها قدرة ناضجة على الإخلاص، على الإيمان، على المعاناة».
يُنقَل الفرق في موقف الروائي من هاتين المرأتين بطرق كثيرة مباشرة ودقيقة بحيث إنها لا تحتاج إلى توضيح. ولكنّ أهم فرق قد يكون هو ذاك المتضمن في منح المؤلف تعبيرًا بشريًّا لإحداهما وحجبه عن الأخرى. من الواضح أنه ليس جزءًا من غرض كونراد أن يمنح لغة لـ"لأرواح البدائية" لأفريقيا، فبدلًا من الكلام يصدرون «ثرثرة عنيفة ذات أصوات خرقاء». «يتبادلون عبارات قصيرة غير مفهومة» حتى فيما بينهم. لكنهم يكونون في معظم الأحيان أكثر انشغالًا بهيجانهم. هناك مناسبتان في الكتاب، مع ذلك، عندما يبتعد كونراد نوعًا ما عن عادته ويمنح كلامًا -حتى الكلام الإنـﮕليزي- للمتوحشين، الأولى عندما تتمكّن منهم وحشيتُّهم:
«امسك بهم.
قال بحدّة، وعيناه محتقنتان على اتساعهما، وأسنانه الحادّة تلمع.
امسك بهم. سلّمهم إلينا.
سألته:
لكم؟ ماذ ستفعلون بهم؟
قال بفظاظة:
نأكلهم».
المناسبة الأخرى كانت الإعلان الشهير: «مِستاه كيرتز .. ميّت»(2).
يمكن فهم هذه الأمثلة من الوهلة الأولى أنها أفعال سخيّة غير متوقّعة من كونراد. في الواقع، إنها تشكّل بعض أفضل تهجُّمه. في حال أكلة لحوم البشر، فإن الهمهمات غير المفهومة التي خدمتهم حتى هذه النقطة في الكلام، أثبتت فجأة عدم كفايتها لغرض كونراد في السماح للأوروﭙـي بأن يلمح التوق الذي لا يوصف في قلوبهم. عندما فكّر كونراد في ضرورة تحقيق الانسجام بين صورة البهائم الخرساء ومزاياها الحسيّة التي تثبت إدانتها بدليل واضح لا لبس فيه يصدر عن أفواهها هي نفسها، اختار الأخيرة. أما عندما أعلن (صاحبُ الرأس الأسود الوقح عند مدخل الباب) وفاةَ السيد كيرتز، فأيُّ نهاية أفضل أو أكثر ملاءمة - يمكن أن تُكتب لقصة مرعبة عن ابن الحضارة العاصي ذاك، الذي قدّم روحه متعمِّدًا لقُوى الظلام و«اتّخذ مقعدًا عاليًا بين شياطين الأرض» - من إعلان موته الجسدي على يد القُوى التي انضم إليها؟
يمكن المحاججة، بالتأكيد، بأن الموقف من الأفريقي في (قلب الظلام) ليس موقف كونراد، وإنما هو موقف راويه، مارلو، ولعلّ كونراد -بعيدًا عن تأييده هذا الموقف- أراد أن يسترعي الانتباه إلى موقف راويه حقًّا ليجعله موضع سخرية ونقد. من غير ريب، يبدو أن كونراد تجشَّم آلامًا كبيرة ليضع طبقات عازلة بينه وبين الكون الأخلاقي لتاريخه. لديه، مثلاً، راوٍ خلف الراوي. الراوي الرئيس هو مارلو، بيد أن وصفه يُقدَّم إلينا من خلال مِرشَحة راوٍ ثانٍ، شخص مظلِّل. ولكن إذا كانت نيّة كونراد أن يضع حاجزًا وقائيًّا بينه وبين القلق الأخلاقي والنفسي لراويه، فإن حرصه يبدو لي ضائعًا تمامًا لأنه يهمل التلميح، سواء على نحوٍ طفيف أو متردّد، إلى إطار مرجع بديل يمكننا بواسطته الحكم على أفعال شخصياته وآرائها. لن يكون فوق طاقة كونراد أن يتّخذ ذاك التدبير لو أنه فكّر أنه ضروري. يبدو مارلو بالنسبة إليّ متمتّعًا بثقة كونراد الكاملة. شعور تعزِّزه التشابهات القريبة بين مهنتي الاثنين.
يخرج إلينا مارلو ليس كشاهد على الحقيقة فحسب، بل كشخص اعتنق تلك الآراء التقدُّمية والإنسانية الملائمة للتقاليد الإنـﮔليزية الليبرالية التي اقتضت من جميع الإنـﮔليز المهذّبين أن يصابوا بصدمة عميقة جرّاء الفظاعات المرتكبة في بلغاريا أو في كونغو الملك ليوﭙولد ملك البلجيكيين أو في أي مكان. لذلك فإن مارلو قادر على إثارة مشاعر تدمي القلب كهذه:
«كانوا يموتون ببطء، كان ذلك واضحًا جدًّا. لم يكونوا أعداءً، لم يكونوا مجرمين، لم يكونوا أي شيء أرضي الآن، لا شيء سوى ظلال سوداء من المرض والجوع تضطجع بارتباك فوق كآبة خَضِرة. جُلِبوا من جميع زوايا السواحل المظلمة بعقود قانونية، ضاعوا في بيئات بغيضة، اقتاتوا طعامًا غير مألوف، حتى مرضوا، وأصبحوا غير فاعلين، وحينئذ تُرِكوا ليمضوا زاحفين وليستريحوا».
إن الليبرالية التي يعتنقها مارلو/ كونراد هنا لامست أفضل العقول في ذلك العصر في إنـﮔلترا وأوروﭙـا وأمريكا. اتّخذت أشكالًا مختلفة في عقول أناس مختلفين، لكنها تمكّنت على الدوام تقريبًا من تجنّب السؤال الجوهري للمساواة بين البيض والسود. ذلك التبشيري الرائع، ألبرت شفايتزر، الذي ضحّى بمهنتيه اللامعتين في الموسيقى واللاهوت في أوروﭙـا من أجل تكريس حياته لخدمة الأفارقة في منطقة تشبه كثيرًا المنطقة التي يكتب عنها كونراد، يوجز التناقض. في تعليق كثيرًا ما نُقل عنه، يقول شفايتزر: الأفريقي هو أخي حقًّا، ولكن أخي الأصغر. وهكذا شرع يبني مستشفى يلبي حاجات إخوته الأصغر بمعايير صحيّة تُذكِّر بالممارسة الطبية في أيام ما قبل ظهور نظرية جرثومية المرض إلى الوجود. من الطبيعي أن أَصبح مثار ضجة في أوروﭙـا وأمريكا. توافد الحجاج، وأظن أنهم ما زالوا يتوافدون حتى بعد مماته، ليشهدوا المعجزة المذهلة في "لمباريني"، على حافة الغابة البدائية.بيد أن ليبرالية كونراد ما كانت لتأخذه إلى حدّ بعيد كما أخذت شفايتزر. لن يستخدم كلمة أخ مهما كانت مهما كانت الصفة التي تحددها؛ إن أبعد ما سيصل إليه هو القرابة. عندما يسقط مُوجِّه دفّة مارلو الأفريقي والحربة مغروزة في قلبه، يُلقي على سيّده الأبيض نظرة مقلقة أخيرة.
«ما زال العمق الحميمي لتلك النظرة التي رمقني بها عندما تلقّى الطعنة باقيًا إلى هذا اليوم في ذاكرتي، مثل مطالبةٍ بقرابة بعيدة أُكِّدت في لحظة سامية».
من المهم أن نلاحظ أن كونراد، الحذِر دائما في كلماته، ليس قلقًا كثيرًا بشأن القرابة البعيدة كما هو قلق بشأن أن يدّعي أحد المطالبة بها. الرجل الأسود يطالب الرجل الأبيض بشكل لا يطاق تقريبًا. فرض هذه المطالبة هو ما يخيف كونراد ويفتنه في الوقت ذاته «التفكير في إنسانيتهم.. كإنسانيتك... بشع».
ينبغي أن تكون فكرة ملاحظاتي واضحة تمامًا حتى الآن، وهي أن جوزيف كونراد كان عنصريًّا متطرّفًا. «في النسخة الأولى المنشورة من هذا المقال، كانت الكلمة "ملعون"، وهي إهانة تجديفية ملطّفة في إنـﮔلترا، إذن "عنصري ملعون" هي العبارة الشهيرة التي يشير إليها رابِنويتز»(3). يعود التغاضي عن هذه الحقيقة البسيطة في نقد أعماله إلى حقيقة أن عنصرية الأبيض ضد الأفريقي طريقة معتادة في التفكير إلى حدّ أن تجلياتها تمرّ دون أن يُلتفت إليها مطلقًا. كثيرًا ما سيخبرك دارسو (قلب الظلام) أن كونراد لا يهتم بأفريقيا قدر اهتمامه بتدهور عقلٍ أوروﭘـيٍّ بسبب العزلة والمرض. سوف يلفتون نظرك إلى أن كونراد أقل إحسانًا إلى الأوروﭘيين في القصة منه إلى المحلّيين، وأن فكرة القصة هي السخرية من مهمة أوروﭘـا في جعل أفريقيا متحضرة. أخبرني دارس لكونراد في اسكتلندا أن أفريقيا هي مجرد مسرح لاضطراب عقل السيد كيرتز.
وهذه هي الفكرة إلى حدّ ما. أفريقيا كمسرح وستارة خلفية تحجب الأفريقي كعامل بشري، أفريقيا كساحة معركة ميتافيزيقية مجردة من كل إنسانية يمكن تعرّفها، والتي يدخلها الأوروﭘـي التائه مُعرّضًا حياته للخطر. أما من أحد بمقدوره أن يرى الغطرسة المنافية للطبيعة والحمقاء التي تَقصُر دور أفريقيا هكذا على أن تكون ديكورًا لاضطراب عقل شخص أوروﭘـي تافه؟ ولكن حتى تلك ليست هي القضية. القضية الحقيقية هي تجريد أفريقيا والأفارقة من إنسانيتهما، تجريدًا غذّاه واستمر في تغذيته في العالم هذا الموقف الطويل الأجل. والسؤال هو ما إذا أمكن رواية تحتفي بهذا التجريد من الإنسانية، وتسلب قسمًا من الجنس البشري شخصيته، أن تُدعى بعمل فني عظيم. إجابتي هي: لا، لا يمكن. لا أشكّ في مواهب كونراد العظيمة. حتى (قلب الظلام) لها فقراتها ولحظاتها الحسنة التي لا تُنسى:
«انفتح الأفق أمامنا وانسدّ خلفنا، كأنّ الغابة خطت على مهل فوق الماء لتعوق طريق عودتنا».
كثيرًا ما يكون استكشاف عقولِ الشخصيات الأوروﭘية ثاقبًا وممتلئًا بالبصيرة. لكنّ ذلك كلّه نوقش أكثر من اللازم في الخمسين سنة الأخيرة، غير أن عنصريته الجليّة لم تُعالَج. وها قد حان الوقت!
وُلِد كونراد في عام 1857، في العام نفسه الذي وصلت فيه الإرساليات الإنجيلية إلى أبناء شعبي في نيجيريا. أكيد لم يكن خطؤه أن قضى حياته في زمن كانت فيه سمعة الإنسان الأسود في مستوى متدنٍ على نحو خاص. ولكن حتى بعد الصفح عن جميع آثار التعصّب في حساسيته آنذاك، ما زال في موقف كونراد فَضْلَةٌ من كراهية للشعب الأسود، وحدها سيكولوجيته الغريبة يمكنها تفسيرها. وصفه لأول لقاء جمعه برجل أسود يكشف ذلك جيّدًا:
«ثمّة زنجيّ "أسود" ضخم صادفته في هاييتي أكّد فهمي للغضب الأعمى العنيف المسوق بالعاطفة الجامحة عندما يتجلّى في الحيوان البشري، حتى آخر يوم في حياتي. لقد اعتدت أن أرى ذاك الزنجي في أحلامي سنوات بعد ذلك». من المؤكّد أن كونراد كانت لديه مشكلة ضدَّ الزنوج. ينبغي أن يكون حبّه المفرط لتلك الكلمة ذاتها محط اهتمام المحلّلين النفسيين. وأحيانًا يبدو تركيزه على السواد مثيرًا للاهتمام على حدٍّ سواء عندما يمدّنا بهذا الوصف الموجز:
«وقف شكل أسود، خطا بقدمين طويلتين سوداوين، ملوّحًا بذراعين طويلتين سوداوين»، كأننا قد نتوقّع شكلاً أسود يخطو بقدمين سوداوين ليلوّح بذراعين بيضاوين! لكن هاجس كونراد قاسٍ جدًّا. كموضوع مثير للاهتمام يقدّم لنا كونراد، في كتابه (سجلّ شخصي)، ما يعادل أن يكون مثالاً مرافقًا لزنجي هاييتي "الأسود". في السادسة عشرة من عمره يصادف كونراد أول إنـﮔليزي في أوروﭘـا. يدعوه بـ"رجلي الإنـﮔليزي الذي لا يُنسى"، ويصفه بالطريقة الآتية:
«انكشفت ربلتا ساقيه لنظرات العامة المحدّقة ... مُبهرةً الناظر بإشراقة مظهرها الشبيه بالرخام وإضاءتها الغنية بلونها العاجي الطازج ... أضاء وجهه وعينيه المنتصرتين نور من رضًا غامر ومهيب عن بني البشر. في أثناء مروره أطلق نظرة فضولية عجلى عطوفًا، وومضة ودودًا لأسنان كبيرة سليمة وبرّاقة ... تحركت ربلتا ساقيه البيضاوان برشاقة وثبات».
حبّ غير عقلاني وكُره غير عقلاني يتصارعان داخل قلب ذاك الرجل الموهوب المعذّب. بيد أنه في حين إن الحب غير العقلاني يولّد أفعالًا طائشة حمقاء في أسوأ الأحوال، قد يعرّض الكره غير العقلاني حياة المجتمع للخطر. إنه من الطبيعي أن يكون كونراد حلم النقد التحليلي النفسي. ولعلّ أكثر دراسة مفصّلة عنه في هذا الاتجاه كتبها برنارد سي. مير (وهو طبيب). في كتابه المطوّل يتبع الدكتور مير كلّ محاولة ممكن تصورها (وأحيانًا محاولات غير ممكن تصورها) كي يشرح كونراد. يعطينا كمثال مقالات طويلة عن أهمية الشَّعر وقصّ الشَّعر عند كونراد. ومع ذلك، ما من حتى كلمة واحدة ادُّخرت لموقفه من السود. ولم تكن حتى مناقشة معاداة كونراد للسامية كافية لتومض في عقل الدكتور مير تلك الأفكار الأخرى المظلمة والمتفجّرة، الأمر الذي لا يقود المرء إلا إلى استخلاص أن المحلّلين النفسيين الغرببيين لا بدّ وأنهم يعدّون العنصرية التي يظهرها كونراد طبيعية تمامًا، على الرغم من العمل الهام العميق الذي أنجزه فرانز فانون(4) في مستشفيات الأمراض النفسية في الجزائر الفرنسية.
أيّا كانت مشكلات كونراد، قد تقولون إنه يرقد في قبره بأمان الآن. صحيح تمامًا. لسوء الحظ أن قلبه المظلم ما زال يعذّبنا. وهذا يفسّر لماذا يمكن وصف كتاب مهين وبائس من قبل باحث جادّ بأنه "بين أعظم نصف دزينة من الروايات القصيرة باللغة الإنـﮔليزية"، ولماذا هو اليوم أكثر الروايات الموصى بها في مقررات أدب القرن العشرين في أقسام اللغة الإنـﮔليزية في الجامعات الأمريكية. ثمة سببان ممكنان يمكن تفنيد ما بحوزتي من دعم لهما. الأول أنه ليس من مهمة الأدب أن يرضي الناس بشأن من يكتب عنهم. سوف أستمر في ذلك. لكنني لا أتحدث عن إرضاء الناس. أتحدّث عن كتاب يعرض متباهيًا وبأكثر الطرق سوقيّة، تعصُّبًا وإهاناتٍ عانى بسببها جزء من البشرية أَعْذِبةً وفظائعَ لا توصف في الماضي، واستمر ذلك بطرق شتى وفي أماكن كثيرة اليوم. أتحدّث عن قصة تضع إنسانية السود المجرّدة موضع تساؤل. ثانيا، قد يُعترض عليّ استنادًا إلى الواقع. كونراد، مع ذلك، أبحر إلى الكونغو في عام 1890 عندما كان والدي لا يزال طفلا يُحمل. كيف لي أن أقف بعد أكثر من خمسين عامًا بعد وفاته وأنبري لمعارضته؟ إجابتي هي أنني كرجل عاقل لن أقبل حكايات أي مسافر فقط على أساس أنني لستُ من قام بالرحلة. لن أثق في الأدلة حتى لو كانت بعيني إنسان عندما أشكّ أنها متحاملة مثل عيني كونراد. وحدث أيضا أن عرفنا أن كونراد، على حدّ تعبير كاتب سيرته برنارد سي مير، "اشتهر بعدم دقته في تقديم تاريخه الخاص".
بيد أن الأهم على الإطلاق هو الشهادة الوافية التي يمكننا جمعها عن متوحِّشي كونراد لو كنّا ميالين إلى ذلك من مصادر أخرى، والتي قد تقودنا إلى التفكير في حتميّة أن يكون لهؤلاء الناس مهن أخرى إلى جانب الاندماج في الغابة الشريرة أو التجسُّد منها ببساطة لإصابة مارلو وفرقته المكتئبة بالبلاء. لأنه وبعد فترة وجيزة من كتابة كونراد كتابه وقعت حادثة كان لها نتائج كبيرة في عالم الفن في أوروﭘـا. هكذا يصفها فرانك ويلِت، مؤرخ في الفن البريطاني:
«ذهب غوغان(5) إلى تاهيتي، الفعل الفرداني الأكثر تطرّفًا للتحوّل إلى ثقافة غير أوروﭙية في العقود السابقة واللاحقة مباشرة لعام 1900، حينما كان الفنانون الأوروﭙيون توّاقين إلى تجارب فنية جديدة، ولكن فقط فيما بين عامي 1904 و1905 بدأ الفن الأفريقي بإحداث تأثيره المميَّز. قطعة واحدة ما زال من الممكن تعرّفها؛ إنها قناع أُعطي لموريس ﭬـلامِنك(6) في عام 1905. يسجّل ﭬـلامِنك أن ديران(7) كان "عاجزًا عن الكلام" و"مذهولًا" عندما رأى القناع، فاشتراه من ﭬـلامِنك وعرضه بدوره على ﭙيكاسو(8) وماتيس(9) اللذين أيضًا تأثّرا به كثيرًا. استعاره أمبرواز ﭭولار(10) فيما بعد وسبكه بالبرونز ... كانت ثورة الفن في القرن العشرين في الطريق!»
القناع موضوع النقاش صنعه متوحّشون آخرون يعيشون تحديدًا في شمال كونغو كونراد. لهم اسم أيضًا: شعب الفانغ، وهو بلا شك من بين أعظم سادة النموذج النحتي في العالم. الحدث الذي يشير إليه فرانك ويلِت يميِّز بداية التكعيبية وضخّ حياة جديدة في الفن الأوروﭙـي، الذي كان قد استنفد قواه تمامًا. الهدف من هذا كلّه هو اقتراح أن صورة كونراد عن شعب الكونغو تبدو غير كافية بشكل فظّ حتى في ذروة خضوعه لفظاعات جمعية الملك ليوﭙولد الدولية لحضارة أفريقيا الوسطى.
إن الرحالة من ذوي العقول المغلقة يخبروننا بالقليل باستثناء ما يخبروننا به عن أنفسهم. ولكن حتى أولئك الذين لا يغشى عيونهم رهاب الأجانب، مثل كونراد، يمكن أن يكونوا عميانًا بشكل مذهل. لأستطرد هنا قليلا. سافر أحد أعظم الرحالة وأكثرهم جسارة على مرّ الأزمان، ماركو ﭙولو، إلى الشرق الأقصى من البحر الأبيض المتوسط في القرن الثالث عشر، وقضى عشرين عامًا في بلاط قوبلاي خان في الصين. ولدى عودته إلى البندقية دوّن في كتابه المعنون (وصف العالم) انطباعاته عن الناس والأماكن والعادات التي رآها. ولكن كان هناك على الأقل حذف لحدثين استثنائيّين في وصفه. لم يذكر شيئًا عن فن الطباعة، الذي كان ما زال مجهولا في أوروﭙـا ولكنه في كامل ازدهاره في الصين. إما لأنه لم يلحظه مطلقًا وإما -إن كان قد لحظه- أنه فشل في رؤية كيف يمكن لأوروﭙـا أن تستفيد منه. أيًّا يكن السبب، كان على أوروﭙـا أن تنتظر مائة سنة أخرى لغوتنبرغ. بيد أن الأكثر إذهالًا، كان حذف ماركو ﭙولو أيّ إشارة إلى سور الصين العظيم الذي يبلغ طوله 4000 ميل تقريبًا، وكان قد صار عمره ألف عام في وقت زيارته. مرة أخرى، لعلّه لم يره، لكن سور الصين العظيم هو البناء الوحيد للإنسان الذي يُرى من القمر! حقًّا يمكن أن يكون الرحالة عميانًا.
كما قلت سابقًا، لم يخترع كونراد صورة أفريقيا التي نجدها في كتابه. كانت وما زالت هي الصورة السائدة عن أفريقيا في الخيال الغربي، وكونراد جلب مواهبه العقلية الغريبة فحسب ليؤثر فيه. لأسباب يمكن استخدامها بالتأكيد في بحث سيكولوجي مُحكم، يبدو أن الغرب يعاني قلقًا عميقًا إزاء هشاشة حضارته، وأنه بحاجة إلى طمأنة مستمرة بمقارنته بأفريقيا. لو قُيِّض لأوروﭙـا، المتقدِّمة في الحضارة، أن تلقي -على نحو دوري- نظرة إلى الخلف، إلى أفريقيا العالقة في بربرية بدائية، لأمكنها القول بإيمان وإحساس: تلك أنا لولا رحمة الرب. أفريقيا بالنسبة إلى أوروﭙـا كالصورة بالنسبة إلى دوريان غراي(11)؛ حمّال يُفرغ فيه سيّده تشوهاته الجسدية والأخلاقية حتى يتمكّن من التقدّم منتصبًا ونقيًّا. وبالتالي أفريقيا شيء ينبغي تجنّبه تمامًا كما ينبغي للصورة أن تُخبّأ بعيدًا لحماية استقامة الرجل المعرّضة للخطر. ابق بعيدًا عن أفريقيا وإلا! كان ينبغي للسيّد كيرتز، بطل (قلب الظلام) أن ينتبه إلى ذلك التحذير، وكان الرعب الجائس في قلبه سيحتفظ بمكانه، مقيّدًا إلى مخبئه. لكنه عرّض نفسه بحماقة لإغراء الدّغل البرّي الذي لا يُقاوَم فكان أن اكتشفه الظلام.
في مفهومي الأصلي لهذا المقال كنت قد فكّرت بإنهائه، على نحوٍ لطيف، بملاحظة إيجابية مناسبة أقترح فيها من موقعي المتميز في الثقافتين الأفريقية والغربية بعضَ المزايا التي يمكن أن يستنتجها الغرب من أفريقيا ما إن يخلّص عقله من التحيّزات القديمة ويبدأ النظر إلى أفريقيا ليس من خلال تشوهات مضبّبة وغموض رخيص، بل ببساطة كبيرة من خلال كونها قارّة من البشر، ليسوا ملائكة، ولكنهم ليسوا أرواحًا بدائية أيضًا، بشر وحسب، هم في أحوال كثيرة بشر موهوبون، وفي أحوال كثيرة أخرى ناجحون بشكل لافت للنظر في مشاريعهم مع الحياة والمجتمع. لكنني لمّا فكرت أكثر في الصورة النمطية، في قبضتها وانتشارها، في العناد المتعمَّد الذي يحمله الغرب في قلبه؛ عندما فكرت في تلفزيون الغرب وسينماه وصحفه، في الكتب المقروءة في مدارسه وخارجها، في الكنائس وهي تَعِظ المقاعد الخاوية بالحاجة إلى إرسال المساعدة إلى الوثنيّ في أفريقيا، أدركتُ أنه ما من تفاؤلٍ سهلٍ ممكن. وكان هناك، على أيّة حال، شيء خاطئ تمامًا في تقديم رُشىً للغرب لقاء رأيه الجيد في أفريقيا. في النهاية يجب أن يكون هجر الأفكار الضارّة مكافأته الخاصة والوحيدة. على الرغم من استخدامي كلمة متعمَّد عدة مرات هنا لوصف رأي الغرب في أفريقيا، قد يكون من الجيد القول إن ما يحدث في هذه المرحلة أقرب إلى الفعل المنعكس منه إلى الخبث المحسوب، الأمر الذي لا يجعل من الوضع أكثر تفاؤلًا بل أقل تفاؤلًا.
نشرت صحيفة كريستيان ساينس مونيتر ذات مرة -وهي صحيفة أكثر استنارة من غيرها- مقالاً هامًّا كتبه محررها التعليمي حول المشكلات النفسية والتعلُّمية الجسيمة التي يواجهها الأطفال الصغار الذين يتحدثون لغة في المنزل وعندما يذهبون إلى المدرسة يتحدثون لغة أخرى. كان مقالًا واسع المجال يتناول الأطفال متحدثي الإسـﭙانية في أمريكا، وأطفال العمّال الإيطاليين المهاجرين في ألمانيا، والظاهرة الرباعية اللغات في ماليزيا، وهَلُّمَّ جرّا. وكل هذا حين يتحدث المقال بشكل لا لبس فيه عن اللغة، ثم ودون سابق إنذار يأتي ما يأتي:
«هناك في لندن أعداد هائلة من الأطفال المهاجرين الذين يتحدثون اللهجات الهندية أو النيجيرية، أو أية لغة وطنية أخرى.»
أعتقد أن إدخال اللهجات في هذا السياق، وهو خاطئ من الناحية الفنية، يكاد يكون رد فعل انعكاسيًّا سبّبته رغبة الكاتب الغريزية في إنزال النقاش إلى مستوى أفريقيا والهند. وهذا مماثل تمامًا لحجب كونراد اللغة عن أرواحه البدائية. اللغة أكثر فخامة من هؤلاء الرجال؛ لنمنحهم اللهجات! في هذا الموضوع كلّه يُمارَس كثير من العنف بشكل حتمي ليس فقط على صورة شعب محتقَر، بل حتى على الكلمات، أدوات الإصلاح ذاتها. انظروا إلى جملة اللغة الوطنية في مقتطف صحيفة ساينس مونيتر. من المؤكد أن اللغة الوطنية الوحيدة الممكنة في لندن هي الإنـﮔليزية الكوكنيَّة(12). لكن كاتبنا يقصد شيئًا آخر، شيئًا يناسب الأصوات التي يصدرها الهنود والأفارقة!
على الرغم من أن العمل الإصلاحي الذي ينبغي القيام به قد يبدو مثبِّطًا جدًّا، أعتقد أنه لن يبدأ في يوم قريب جدًّا. رأى كونراد شرور الاستغلال الإمبريالي وأدانه، لكنه لم يعِ، على نحو غريب، العنصرية التي شحذت بها الإمبرياليةُ أسنانَها الحديدية. بيد أن ضحايا الافتراء العنصري -الذين كان عليهم أن يُعايشوا قرونًا المعاملة الوحشية التي جعلهم الافتراء العنصري ورثتها- طالما خَبِروا هذه الوحشية أفضل من أي زائر عارض، حتى وإن جاء محمّلا بمواهب كونرادية.
المصدر والإشارات:
http://kirbyk.net/hod/image.of.africa.html
(1) يستخدم أتشيبي اقتباسات كثيرة من (قلب الظلام)، أضعُها هنا بين أقواس. اطّلعتُ على ترجمة عربية للرواية كنتُ على وشك اعتمادها في الفقرات المقتبسة في المقال، ولكنني بعد مقارنتها بالأصل فوجئت بحجم الأخطاء المهولة في الترجمة، والتي لم تقتصر على ركاكة اللغة، بل تعدّتها إلى إساءة فهم كثير من المقاصد التي يرمي إليها كونراد، ناهيك عن إغفال كثير من العبارات الاصطلاحية وترجمتها حرفيّا. أعدتُ ترجمة الفقرات المقتبسة مستعينةً بالقواميس اللازمة وباستشارة من لهم باع في اللغة والأدب، آمِلةً أن تكون ترجمتي هذه، سواء للفقرات المقتبسة أو للمقال ذاته، مناسبة ولا تلتبس على القارئ.
(2) كلمة "مِستاه" هنا تحريف لـ"مِستر"، نطقها الرجل الأسود هكذا لافتقاره إلى التحدّث بإنـﮔليزية صحيحة، وللسبب ذاته لم ينجح في استخدام الفعل "مات" بل الصفة "ميّت".
(3) ﭘيتر جي. رابِنويتز: أستاذ الأدب المقارن في كليّة هامِلتون بنيويورك، والذي كتب مقالًا بعنوان: "استجابة قارئ، مسؤولية قارئ: (قلب الظلام) وسياسة الانزياح"، مشيرًا فيه إلى عبارة "عنصري ملعون" التي استخدمها أتشيبي في النسخة الأولى من هذا المقال.
(4) فرانز عُمر فانون (1925-1961): طبيب نفسي وفيلسوف اجتماعي أسود، عُرِف بنضاله ضد التمييز والعنصرية. عمل طبيبًا عسكريًّا في الجزائر في فترة الاستعمار الفرنسي، وعالج ضحايا طرفي الصراع على الرغم من كونه مواطنًا فرنسيًّا.
(5) ﭙول غوغان (1848-1903): رسام فرنسي استقرّ في تاهيتي في عام 1891 عندما كانت مستعمرة فرنسية، ورسم العديد من اللوحات عن تاهيتي وشعبها.
(6) مصوّر فرنسي (1876-1958).
(7) أندريه ديران (1880-1954): فنان فرنسي.
(8) ﭙـابلو ﭙـيكاسو (1881-1973): فنان إسـﭙاني.
(9) هنري ماتيس (1869-1954): رسّام فرنسي.
(10) تاجر أعمال فنيّة فرنسي.
(11) رواية للكاتب الأيرلندي أوسكار وايلد.
(12) لهجة إنـﮔليزية يتحدث بها أبناء لندن، خصوصًا في أقصى الشرق منها.